تدور أغلب النقاشات السياسية والإعلامية الأردنية اليوم تجاه تطورات الأوضاع غربي النهر حول سؤال رئيس: ما هو دور الأردن؟ أو هل لدى الأردن أوراقٌ يمكن استخدامها في مواجهة حكومة نتنياهو، بخاصة في ظل ما تقوم به ضد المصلين المعتكفين في المسجد الأقصى؟
ثمّة اتجاهان عموماً في النخب الأردنية، في أوساط القرار. يأخذ الأول طابعاً محافظاً ويحذّر من تورّط الأردن أكثر في الملف الفلسطيني أو في الدخول في صدام مع حكومة نتنياهو. ويرى أصحاب هذا الاتجاه النافذ أن المطلوب هو ترسيم خطوط فاصلة واضحة بين المصالح الوطنية الأردنية والفلسطينية وعدم الخلط بينهما، وعدم الانجرار في حساباتٍ غير واقعية على الصعيدين الإقليمي والسياسي، بخاصة مع ما يحدُث في الإقليم من تحوّلات كبيرة في موقف الدول العربية، بخاصة مع الاتفاقيات الإبراهيمية. وعلى الطرف الآخر، يرى الاتجاه الثاني (من نخب سياسية في أوساط القرار) أنّ ما يحدث في فلسطين وما يرتبط بالأقصى والضفة الغربية يهدّد الأمن القومي الأردني، وقد برزت دعاوى واضحة، بخاصة بعد استخدام وزير المالية الإسرائيلي، سموتريتش، خريطة لإسرائيل تشمل الأردن، في كلمة له في باريس نفى فيها أن يكون هنالك شعب فلسطيني أصلاً.
في صميم هذا النقاش السياسي الوطني الأردني، من الضروري فرز المفاهيم وتأطيرها بصورة واضحة، كي يكون هنالك تعريف دقيقٌ أولاً للأمن الوطني الأردني وحدوده، وثانياً للمصالح الحيوية الأردنية، وثالثاً لمصادر التهديد المرتبطة بما يحدُث في الداخل، أو حتى على الطرف المقابل الفرص الممكن أن يتعامل معها الأردن لتحقيق مصالحه وحماية أمنه الوطني.
في إسرائيل نقاشٌ مستمرٌّ وسنويٌّ بشأن تطور الأوضاع وحدود الأمن الإسرائيلي
ولعلّ البداية السلبية في هذا التحليل تشير إلى أنّ الأردنيين يفتقرون إلى مفاهيم واضحة وتعريفات دقيقة في السياسات الخارجية لبلدهم؛ أولاً لتعريف الأمن الوطني الأردني وحدوده ومداه، بخلاف أغلب الدول، أو المنطقة المحيطة بنا، فمثلاً في إسرائيل نقاشٌ مستمرٌّ وسنويٌّ بشأن تطور الأوضاع وحدود الأمن الإسرائيلي، ومدارس مؤطّرة ومعرّفة (عبر الأحزاب السياسية والمؤسسات الأمنية والمؤسّسات العسكرية والقوى السياسية والاجتماعية)، وتساهم في ذلك المدارس الأكاديمية والمعاهد أيضاً. وفي مصر هنالك تعريف متوافق عليه بين النخب السياسية والمؤسسة العسكرية والأمنية، يضع قطاع غزة ضمن دائرة الأمن القومي المصري، وفي المجال الاستراتيجي السوداني والليبي وهكذا. والأمر كذلك لدى الأتراك والإيرانيين.
لا يوجد تنظير واضح المعالم، فضلاً عن توافقاتٍ وطنيةٍ أساسية، بشأن مفهوم الأمن الوطني وأبعاده، وهذا مهم لأنّه يعيد تأطير النقاشات الداخلية عن حدود الدور الأردني والأوراق الأردنية المتعلقة بالقضية الفلسطينية، بين الاتجاهين السابقين من النخب السياسية، فإذا كانت الضفة الغربية تدخل ضمن إطار الأمن الوطني ومصادر التهديد المباشرة أم أنّها مسألة ثانوية وأنّ الأمن الوطني الأردني ينتهي عند الحدود الغربية، أو خط نهر الأردن.
وإذا كانت هنالك "بُنية متوارية" في النقاش الأردني، بخاصة في موقف التيار المحافظ فتتمثل في ما يسمّى "شبح الوطن البديل" (مصطلح يحتاج أيضاً إلى تعريف وتأطير)؛ لذلك تجد الميل لدى هذا الخطاب إلى التحفّظ والتوجس من أي توسّع في الخطاب والديبلوماسية الأردنيين في مواجهة المشروع الإسرائيلي وتمدّده، هذا إذا تجنبنا الخط الأكثر "تطرّفاً" في الاتجاه المحافظ، في حديثه الواضح في الداوئر المغلقة، عن الخشية من الانزلاق في مواجهةٍ غير متكافئة مع حكومة نتنياهو، بما يؤثر سلباً على الأمن الوطني الأردني.
ما يحدث في القدس والأراضي المحتلة من تطوّرات راهنة تدخل في صميم المصالح الحيوية الأردنية
هنالك إشكالية كبيرة في خطاب هذا الاتجاه المحافظ، أنّه تسمّر وتوقف عند المعادلات التقليدية التي حكمت نخبة سياسية تقليدية، تاريخياً، كانت ترى إسرائيل صمّام أمان للأمن الوطني الأردني، لاعتبارات عدّة، منها الصراع القاسي بين الأردن والجوار العربي، وثانياً لأن أمن الأردن، وفقاً لهذه الرؤية، يمثل متطلباً استراتيجياً إسرائيلياً. وهذه الفرضيات، الخاطئة والانطباعية، لو فرضنا بعضاً من صحّتها، فهي قديمة مرتبطة بعصر انتهى وولّى، ولا تأخذ بالاعتبار التحوّلات الاستراتيجية التي حدثت في الأوساط الانتخابية والسياسية الإسرائيلية، إذ أصبح اليمين المتطرّف، قومياً ودينياً، هو التيار العام في إسرائيل، ويمثل نتنياهو في أوساطه تياراً معتدلاً مقارنة بـ"النجوم الصاعدة". وبالتالي، يعيش هذا الخطاب (المحافظ أردنياً) على "أطلال" مرحلة سابقة، وأزعم أيضاً أنّها قناعات بُنيت على قراءةٍ سطحية.
لو أخذنا الاتجاه الآخر، وكاتب هذه السطور من دعاته، فإنّه يرى أنّ الضفة الغربية والقدس امتداد للأمن الوطني الأردني، وأنّ ما يحدث في القدس والأراضي المحتلة من تطوّرات راهنة تدخل في صميم المصالح الحيوية الأردنية، فإذا أخذنا ثلاثة ملفات رئيسية؛ القدس والوصاية الهاشمية، التي تمثل بعداً رمزياً وتاريخياً مهماً للحكم الهاشمي أولاً، وتكرّس أهمية الدور الأردني في ملف القضية الفلسطينية، ثانياً، ويعطي الأردن الحقّ في الجلوس على الطاولة والتفاوض والنقاش في ما يتعلق بالجوار الفلسطيني، ثم هنالك ملف الحدود واللاجئين الفلسطينيين في الأردن، وحتى الخشية من الترانسفير أو الوطن البديل، فالجواب على ذلك ليس الانكفاء إلى الداخل (الأردني)، بل ممارسة نفوذ استراتيجي في الأوضاع الفلسطينية.
تكرّس الدبلوماسية الأردنية مساعيها بدرجة كبيرة لضمان التهدئة في الأراضي المحتلة
لو تجاوزنا هذه الاتجاهات الاستراتيجية الأردنية في مقاربة الحالة الفلسطينية - الإسرائيلية، وانتقلنا إلى اختبار مجموعة من الفرضيات الرئيسية في السياسات الأردنية، فهي تحتاج أيضاً إلى مراجعة وحوار وتوافق وطني، مثلاً، هنالك فرق كبير بين الرهان استراتيجياً وتكتيكياً على إسقاط حكومة نتنياهو، فقد يكون من مصلحة الأردن أن تسقط هذه الحكومة لاعتبارات متعدّدة، على المدى القصير. وفي المقابل، لا يعني ذلك، بالضرورة، أنّ البديل "إسرائيلياً" هو الحل، فمن الواضح أن الوسط الإسرائيلي كله شهد انزياحاً كاملاً نحو اليمين، والرهانات الأردنية، سابقاً، على معسكر السلام أصبحت بالية، وليست منطقية ضمن الوضع الحالي، ما يطرح سؤالاً آخر ومهما؛ ما العمل؟! هل نبقى نتمسّك بمقاربة حلّ الدولتين، وما هي الفرص المتاحة أمام هذ الحل؟ وإذا كانت قد تضاءلت أو انتهت كما يرى سياسيون وخبراء كثيرون، فما البديل، هل يمكن فعلاً أن تقدّم مقاربة "الحقوق السياسية" بديلاً واقعياً؟! وهل تم التفكير بذلك وتحليله في دوائر الفكر والسياسة الأردنية، أم أنّنا في "غيبوبةٍ" عن هذه الطروحات الاستراتيجية (عشرات الكتب والدراسات المتخصّصة في موضوع "الحقوق" وحل الدولة، صدرت في الولايات المتخدة والكيان الإسرائيلي، وتتطرّق لتفصيل التفصيل).
سؤال آخر، مثلا، تكرّس الدبلوماسية الأردنية مساعيها بدرجة كبيرة لضمان التهدئة في الأراضي المحتلة، وهي الأسباب التي وقفت وراء عقد اجتماعي العقبة وشرم الشيخ (خلال الأسابيع الماضية، بين الفلسطينيين والإسرائيليين بحضور أردني – مصري – أميركي)، لكن هل دُرس موضوع التهدئة بصورة معمّقة، وهل هو مصلحة استراتيجية أردنية فعلاً، ثم ماذا عن الخيارات الأردنية لمرحلة ما بعد الرئيس محمود عبّاس، هل لدينا تصوّر واضح عن السيناريوهات والبدائل وما يترتّب على كلّ منها..
ثمّة كثير مما يقال عن الأردن وما يحدث في الأراضي المحتلة والقدس، وحتى الاحتجاجات الإسرائيلية الداخلية، لكن ما هو أهم أنّ ما تفتقر إليه عملية صنع السياسة الخارجية الأردنية هو الإطار المفاهيمي والاستراتيجي المبني على توافق وطني، ولو في الحدّ الأدنى، وتعريف واضح للأمن الوطني ومصالح الأردن الاستراتيجية.