الأردن وطمـوح الخروج من جلباب النفط
رجو أن تكون محاولة الحكومة جدية فعلا في دعم الكاز ، الذي يعتبر العنصر الأساسي للتدفئة لدى الطبقات الفقيرة في المجتمع وتقريبا الغالبية العظمى من السكان في الأرياف. لا يمكن الاستمرار بتحميل المواطنين عبء الفاتورة النفطية بكل مشتقات
ا. إذا كان يمكن للموسرين وأبناء الطبقة الوسطى التعامل ببعض الحرص مع البنزين والسولار فإن الكاز يبقى المادة التي تعتبر الأهم من الناحية الاجتماعية ولا بد من إجراءات استثنائية لدعمها وتحفيف سعرها على المواطنين. ولكن الحل الأفضل هو في تقليل الاعتماد على المشتقات النفطية في الاقتصاد الوطني. ينتظر الكثير من المواطنين العاشر من الشهر القادم حيث تجتمع لجنة تسعير المحروقات وربما ستقرر تخفيض اسعار المحروقات في حال استمر تراجع سعر النفط في السوق العالمي. هذه اللعبة من الزيادة والنقصان لا تتعدي قروشا قليلة في وحدة المحروقات ولكنها تعني الكثير في القوة الشرائية والحركية للمواطنين. حتى في حال تراجعت أسعار المحروقات بالنسبة للبنزين والسولار فإن أسعار كل السلع والخدمات التي ارتفعت تلقائيا مع المحروقات ربما لن تتراجع نظرا لعدم وجود آلية رسمية لضبطها ، ولكنها بالتأكيد سوف ترتفع تلقائيا مع اي ارتفاع للأسعار المحلية. ان الذين يمسكون بزمام سعر السوق هم التجار وكل ما تستطيع الحكومة فعله حاليا هو ممارسة الرقابة لتخفيض أسعار المشتقات النفطية التي تباع من المحطات مباشرة. المشاهد التي نراها في ليلة التاسع من كل شهر مؤسفة وتوضح مدى الاعتماد الكبير لحياة الناس على بضعة قروش في سعر المحروقات. سيارات بالعشرات تصطف في أية دقيقة من الزمن لتعبئة خزان البنزين قبل رفع الأسعار. سيارات من ذوات الدفع الرباعي والمحركات التي تتجاوز 2000 سي سي وأسعار تتجاوز 20 ألف دينار. المراقب يجد نفسه حائرا في تفسير لماذا يضطر شخص قادر على شراء سيارة دفع رباعي بسعر يتجاوز 30 ألف دينار إلى الانتظار لمدة نصف ساعة أو أكثر من أجل توفير مبلغ لا يتجاوز 3 دنانير في فارق تعبئة خزان السيارة ولمرة واحدة فقط؟ الجواب على ذلك قد يكون موجودا في سجلات الاقتراض من البنوك ونسبة القروض التي يتم منحها لشراء السيارات الباهظة الثمن لأسباب اجتماعية. هذا النمط بدأ يتغير الآن وهو أحد أهم وسائل الاستجابة لضغوطات أسعار البنزين. كافة إحصائيات السوق تشير إلى زيادة مبيعات المركبات أقل من 1600 سي سي مقابل تراجع المركبات الكبيرة وهذا بكل صراحة الوضع المطلوب في بلد مثل الأردن. لقد زرت حوالي عشر مدن أوروبية خلال السنوات الخمس الماضية ولم أجد في أي منها نسبة من السيارات الفارهة وذات المحركات الكبيرة مثل عمان. في إيطاليا التركيز على الفيات ، وفي ألمانيا تبقى الخيارات حول سيارة الفولكس فاجن الجولف والأوبل المتوسطة ، وفي فرنسا تسيطر البيجو والرينو بمحركاتها المتوسطة ، وفي هولندا تبدو السيارات اليابانية المتوسطة وخاصة التويوتا والمازدا والميتسوبيشي في الطليعة. كل هذه دول يصل معدل دخل الفرد فيها حوالي خمسة أضعاف الدخل في الأردن وأكثر ولكن خيارات الحكمة في التوفير تجعل السيارات الكبيرة غائبة تقريبا إلا لدى الأثرياء ومدراء الشركات الكبرى. تحولات المركبات في الأردن تحتاج ايضا إلى إجراءات حكومية لعل أهمها تخفيض الضرائب على السيارات الهجينة وهذا ما حدث فعلا مؤخرا حيث تم تخفيض اسعار السيارات الهجينة إلى حوالي %20 ولكنها ما زالت ضمن الفئة االقريبة من 20 ألف دينار وهذا ما يجعل انتشارها محدودا مع أن هذه السيارات تستطيع قطع مسافة 600 كم في خزان مليء واحد وهذا يعني استثمارا طويل الأمد ولكن فقط لمن يملك المبلغ أو القادر على الاقتراض. ولكن الأهم من ذلك هو إنشاء شبكة مواصلات عامة تستطيع تغطية العاصمة عمان والمحافظات بشكل مناسب. وجود شبكة مواصلات عامة نظيفة ودقيقة يساهم بشدة في تخفيض تكلفة التحرك الفردي ولكن المشكلة أن الحركة العائلية تبدو صعبة جدا في ظروف النقل العام الحالية وهذا ما يجعل السيارة مطلبا أساسيا للعائلات. مشكلة أخرى تتسبب بها الارتفاعات في أسعار البنزين تتمثل في تراجع التواصل الحركي ما بين العاصمة والمحافظات مما يزيد في عزلة الأطراف عن المركز. ان مشوارا واحدا من الكرك أو الطفيلة إلى عمان بات مسألة مكلفة جدا وكذلك الحركة من وإلى إربد حيث الجامعات. هذه الزيادة ليست فقط في بنزين السيارات بل أيضا في المواصلات العامة وهي تزيد من الانقطاع ما بين المركز والأطراف خاصة في النشاطات الاقتصادية والتعليمية والثقافية والسياسية ، ان كانت هي الأخيرة موجودة أصلا. وعلى كل حال فإن مشكلة البنزين والحركة قابلة للسيطرة عليها بمزيد من الحرص والترشيد وكذلك التدفئة المنزلية حيث يمكن لتركيب السخانات الشمسية لتسخين المياه صيفا وشتاء أن يقلل من استهلاك السولار ويجعله مخصصا فقط للتدفئة. ولكن ذلك يتطلب أيضا استثمارا رأسماليا في تركيب الأجهزة الشمسية لا يقل عن 400 دينار لمنزل واحد مستقل ، كما أن معظم الشقق السكنية لا تملك مثل هذا النظام وهذا الاستثمار ليس متاحا للغالبية العظمى من المواطنين. بعض التوجهات في إجبار المقاولين على تركيب أجهزة التوفير في الطاقة واستخدام اساليب مبتكرة في التشييد لزيادة دور اشعة الشمس الطبيعية في دخول المنازل يمكن لها أن تساعد كثيرا في التحول إلى أنماط التوفير في الاستهلاك وهذه تحتاج إلى تشريعات وكودات وبراعة تكنولوجية.كل دول العالم تقريبا باتت تفكر بطريقة استراتيجية في التخلص من إدمان النفط والعناصر الأساسية هنا هي التكنولوجيا والتشريعات والحوافز الاقتصادية. لدينا في الأردن مشروع قانون مهم جدا لتشجيع الطاقة المتجددة وهناك حوافز اقتصادية لا بد من التركيز عليها في إلغاء وتخفيض الضرائب على كل منتجات الطاقة المتجددة وأجهزة ترشيد الاستهلاك. التكنولوجيا هي المفتاح الأساسي ولا بد لنا من التحول من استيراد التكنولوجيا إلى إنتاجها وتوطينها في الأردن سواء التكنولوجيا النووية أو الطاقة الشمسية وطاقة الرياح ولدينا الكثير من الخبرات والكفاءات العلمية القادرة على تحقيق تلك النقلة بل وجعلها نموذجا في المنطقة. ربما نضطر في الوقت الراهن إلى ربط اقتصادنا بالمضاربين في أسواق النفط وتغيرات الأسعار المتوالية ، ولكن هذا الأمر يجب أن لا يستمر طويلا وكل جهد للخروج من إدمان النفط يعني المزيد من الاستقلالية الاقتصادية والتنموية واستباقا للنجاة في عالم بات بحاجة إلى أمن الطاقة أكثر من اي شيء اخر
*الدستور