الأردن لن يرسل قوات عسكرية لغزة ولن يقبل استبدال الجندي الإسرائيلي بأردني

على مدى ساعتين، تدفق الكلام في عمان الرسمية في لقاء بين ثلة إعلاميين وكتاب صحفيين ورئيس الوزراء د. بشر الخصاونة، في دارة الرئاسة، والكلام بكل حساسياته؛ كان حول فلسطين، وما يجري في غزة، والضفة الغربية، والقدس، وتأثيرات كل هذه الأزمة على الأردن والمنطقة.

رئيس الوزراء، قدم الرواية الأردنية للأزمة، بطريقة متماسكة وصلبة ومتدرجة ومقنعة، تثبت بأن الأردن يدرك جيدا، كلفة هذه الحرب على فلسطين والأردن وكل المنطقة من الناحية الوطنية والإنسانية والقانونية والاقتصادية، وهذه كلفة يقدرها الأردن بطريقة تتجاوز الموازين اليومية التي نقدر فيها الحسابات الإستراتيجية لكل هذا الظرف، بما يشمل حتى تدفق الغاز من إسرائيل إلى الأردن، وكلفة ذلك ماليا على الأردن، وسيناريوهات انقطاع الغاز الإسرائيلي الذي يستعمل في توليد الكهرباء، وتأثير ذلك على الخزينة، وكلفة اللجوء الى بدائل مكلفة ماليا بشكل أكبر، مع الإشارات إلى أن إسرائيل التي قد تتذرع بالظروف القاهرة لقطع الغاز من حقل "لفياثان" الذي يزود الأردن، بعد قطع الغاز من حقل "تمار" الذي يزود البوتاس في الأردن.


هذه الظروف القاهرة التي قد تدعيها إسرائيل، يجب أن تنطبق ايضا على مجتمع الاحتلال، حتى يكون أي إجراء بشأن الأردن منطقيا، لا قطعه عن الأردن فقط انتقاميا، واستمراره في إسرائيل، والكلام هنا لا يفترض حدوث هذا القطع، لكنه يتحوط إزاء كل الاحتمالات التي توضع حلول لها منذ الآن، في ظل دخول الحرب شهرها الثاني، وتورط إسرائيل في هذه المحرقة.


هذا يعني أن الأردن، يقرأ الحرب في غزة وكأنها على حدوده، وليست على شواطئ البحر الأبيض المتوسط، ورئيس الحكومة خلال اللقاء يستعرض جهد الملك في التواصل مع الأوروبيين وعواصم كثيرة، والحملة السياسية والأخلاقية والإعلامية التي يقوم بها جلالة الملك عبدالله الثاني  وجلالة الملكة رانيا العبدالله، حيث الأردن يتصدر الدول العربية والاسلامية في حملته لوقف العدوان على غزة.


يعتبر الأردن بأن "النقاط الحرجة" في الأزمة الحالية بشأنه تحديدا، ترتبط بعدة قضايا، أبرزها الخطر على القدس والمسجد الاقصى، وثانيها انتقال العمليات العسكرية إلى الضفة الغربية ومحاولة نسخ سيناريو غزة في الضفة، وثالثها تطبيق بروفة التهجير من غزة الى مصر، بما يعنيه ذلك لاحقا على مستوى الضفة والأردن، ورابعها فصل غزة كليا عن الضفة، ومحاولات تدويل القطاع، عبر إرسال قوات عربية ودولية، إذ من المؤكد أن الأردن لن يرسل أي قوة عسكرية إلى غزة، ولا ضمن أي ترتيب، ويستبعد الأردن الرسمي، بأن ترسل أيضا أي دول عربية قواتها الى غزة، في سياقات مشروع دولي إسرائيلي لإدارة القطاع في اليوم الأول بعد الحرب.


وهذا المشروع ألمح له في واشنطن وتل أبيب، كونه الحل الوحيد المتاح لإدارة القطاع، في ظل إعلان إسرائيل أصلا نيتها عدم البقاء في غزة، وفي ظل المعلومات المؤكدة التي تقول إن سلطة رام الله ترفض كليا الدخول إلى القطاع على ظهور الدبابات الأميركية والإسرائيلية لإدارته، وهو ما أبلغه الفلسطينيون الى وزير الخارجية الاميركي أنتوني بلينكن، إلا إذا كان هناك مشروع سياسي متكامل، وفقا لمصادر سياسية ثانية، سربت هذا الشرط الفلسطيني، وهو شرط يأتي في سياقات قراءة كل كلف الوضع الحالي.


رئيس الوزراء، كان غاضبا بشدة في تعبيره عن موقف الأردن، وهو لا يبيع غضبه هنا أمام الإعلام لغايات البطولة الشخصية، بل لحراجة الموقف، وحساسية الظرف، حتى أنه أشار إلى اتهامات "الخارجية الإسرائيلية" التي تضمنت اتهام قيادة الأردن بالتحريض على إسرائيل، متسائلا عمن يحرض هنا: هل هو الذي يهدد غزة بسلاح نووي، أم الأردن الذي يريد وقف الحرب؟ من الذي يحرض هنا:

 

الذي يرتكب جرائم حرب ضد الأبرياء، أم الذي يريد إنقاذ الأبرياء؟ من يحرض هنا: الذي يريد اعلان الحرب على الأردن ومصر عبر التهديد بسيناريو التهجير، أم الذي يريد تثبيت الفلسطينيين على أرضهم من أجل إقامة دولتهم؟ من الذي يحرض هنا: الذي يرتكب جرائم بشعة ضد الانسانية، ام الأردن الذي يعمل ليل نهار، برغم امكاناته المحدودة على إغاثة الفلسطينيين، حتى أنه يفكر اليوم بإرسال جزء من مخزونه الإستراتيجي من القمح إلى الضفة، واحتمال إقامة مستشفى ميداني أردني فيها اذا دعت الحاجة لذلك، أم الذي يقطع الغذاء والدواء عن الفلسطينيين؟ من الذي يحرض هنا: إسرائيل التي تهدد الامن الوطني الأردني بوسائل مختلفة، أم الذي يريد حماية الأردن أمام تداعيات هذا المشهد؟ من يحرض هنا؟ من يقتل المرضى ويقصف المستشفيات، أم من ينقذ المرضى والجرحى ويرسل لهم الأدوية ويعالجهم؟


لدى الأردن نقاطه الحرجة التي ستدفعه إلى مستويات أعلى من خطة ردود الفعل على إسرائيل، لكنها متدرجة، وتصل إلى أعلى المستويات التي قد تخطر على بال المراقبين، بما يعني أن العلاقة بين الأردن وإسرائيل تعبر اليوم أخطر مرحلة منذ اتفاقية وادي عربة في العام 1994، وما تلاها من اتفاقيات، ويفسر الأردن حالة التدرج، برغبته في تثبيت موقفه أيضا أمام العالم، بكونه لا يحرق كل أوراقه مرة واحدة، وبكونه يعطي الفرصة للمجتمع الدولي لردع الاحتلال.


ما يزال الأردن، يضع في حسبته احتمالات التوسع الإقليمي، إذ على الرغم من عدم توسع الحرب حتى الآن بشكل إقليمي، إلا أن ذلك وارد، والحرب منذ هذه الأيام ألقت بظلالها على الأردن على عدة أصعدة، من بينها تأثر الناس الشديد، وتراجع الإنفاق المالي والاقتصادي لدى الناس، والمخاوف من تأثيرات المرحلة المقبلة، والحالة المعنوية التي نراها بين الناس، وحرص الأردن على منحهم حقهم بالتعبير عن أنفسهم، دون تحصين محاولات الإيذاء لرجال الشرطة مثلا، أو الاعتداء على الممتلكات، ودون أن يعرض الأردنيون أنفسهم للخطر الماحق، في ظل المزاج الإسرائيلي الحالي القائم على قتل كل من يحاول التسلل عبر الحدود، وليس محاولة صده أو اعتقاله.


ووسط هذه التركيبة الأمنية- السياسية الحساسة يدير الأردن موقفه الداخلي، في مسارات متوازية من الحساسية المفرطة لاعتبارات أردنية إستراتيجية من حيث القراءات، وما هو أهم في جوهرها، هو توحد كل الأردنيين أمام موقف واحد، حتى ذابت الألوان السياسية، دون أي تمايزات أمام فلسطين، التي يقف الأردن منها موقفا يتجاوز التضامن مع الأشقاء، بقدر كونها قضية الأردنيين الذين قدموا الدم لها، أكثر من كل العرب والمسلمين تاريخيا، في سياقات ثنائية التاريخ والجغرافيا، ثم الدم الواحد.


يريد الأردن وقف الحرب بكل الوسائل، واللافت للانتباه هنا، أنه أشير في اللقاء إلى تفاصيل حول صفقة كانت ستتم جزئيا، تضمن وقف إطلاق النار، والإفراج عن عدد محدود من الأسرى الإسرائيليين، إلا أن تعقيدات الموقف العملياتي والسياسي اليومي، كانت تنسف أيضا كل محاولات وقف الحرب، مع استمرار إسرائيل أيضا بعملياتها ضد الشعب الفلسطيني الأعزل في جرائم حرب، تتقصد الانتقام من الأبرياء والمدنيين، بطريقة أدت لاستشهاد آلاف الأطفال.


ضمن معلومات كثيرة كشفها رئيس الوزراء، وهي ليست للنشر لاعتبارات مختلفة، طلبت إسرائيل مثلا من الأردن، إخراج المستشفى الميداني الأردني في بدايات الحرب من غزة ومغادرة كوادره، بذريعة أن إسرائيل لا تتحمل مسؤولية أمنه، وما قد يتعرض له خلال الحرب، والأردن رفض هنا بكل قوة وعبر اتصالاته وقف المستشفى، بل أجرى اتصالاته في اتجاه آخر لإرسال شحنات الأدوية عن طريق إنزال مظلي، عبر البحر الأبيض المتوسط وصولا إلى غزة، لتشغيل المستشفى وإدامته، والذي تعامل تاريخيا مع أغلب أهل غزة.


والعملية الأردنية الشجاعة، لا ينتقص منها اضطرار الأردن وبقية الدول، للتنسيق مع عواصم مختلفة، لأن كل عمليات الإغاثة البرية الأردنية والدولية السابقة، كانت تجري عبر معبر رفح، أو أي معبر آخر، بما في ذلك قوافل الإغاثة خلال الانتفاضة الثانية التي كانت تجري بواسطة التنسيق، لمعرفة الكل بأن إدخال هذه الشحنات دون تنسيق، يكاد يكون مستحيلا.


موقف الأردن من إسرائيل لا يأتي دعائيا، أو لمحاولة استيعاب الشارع الأردني وإثارة عواطفه، بل يأتي طبيعيا لاعتبارات كثيرة، من أبرزها التاريخ الطويل الممتد بين الأردنيين والفلسطينيين، وتمازج الدم، ولاعتبارات قرب الأردنيين إلى فلسطين، كونهم الأقرب إليها عربيا وإسلاميا، وبسبب مخاطر ما يجري داخل كل فلسطين، وتأثيرات ذلك إستراتيجيا على الأردن الذي يجب أن يبقى قويا ومتماسكا في هذه الظروف، إذ لا مصلحة لأحد بنقل نار الحريق له، أو حتى دخانه، لأن الأردن الثابت والقوي هناك يدعم فلسطين أولا وأخيرا، وهذا يجب أن يتنبه له كثيرون أمام أجندات مشبوهة، تريد إثارة الفوضى في الأردن تحت عناوين عاطفية، يتخفى بعضهم خلفها، لاعتبارات أخطر بكثير، وتقترب من أدوار مكشوفة للطابور الخامس الذي ينشر الإشاعات ويتبناها، في محاولات لخلخلة الأردن وإضعافه، في ظرف حساس يعد فيه السند الأقرب إلى فلسطين.


ووسط هذه الأجواء، يثبت الأردن قوته داخليا، ولعل من مزايا قوته قدرته على الحفاظ على تصنيفاته الاقتصادية دوليا، مقابل إسرائيل مثلا، والتي خفضت تصنيفاتها، وقدرة الأردن على الوصول إلى برامج اقتصادية جديدة مع المؤسسات الدولية في هذه الظروف، بما يعكس احترامه عالميا، والنظرة الإيجابية لأهميته وموقعه الجيوسياسي.

*الغد
 

أضف تعليقك