الأردنيون وكأس العالم: لم نبدأ بعد
يشعر الأردنيون بالفخر لنجاح قطر باستضافة كأس العالم، وتجد هذا الشعور بوضوح على مواقع التواصل الاجتماعي الأردنية، ومن خلال اندماج أعداد كبيرة من الشباب في الحملة التي جرى إطلاقها رداً على الاتهامات التي تزايدت خلال الفترة الماضية بصورة ملحوظة ومقصودة.
في المقابل، ثمّة مرارة لدى الأردنيين ليس فقط لغياب بلدهم عن كأس العالم باستمرار، بل للشعور بأنّ الكرة الأردنية تستحق الأفضل، وأن هنالك خللاً واضحاً في مأسستها وتطويرها، بل وعدم تحقيق تقدّم يذكر خلال العقود الماضية، والمراوحة بين إنجازات محدودة واخفاقات مستمرّة، ما يدفع بالسؤال: لماذا لا توجد فعلاً خطة وطنية للنهوض بالكرة، بل بالرياضة الأردنية عموماً؟ لماذا لا يزال منطق الفزعة و"وين العرب" هو الذي يحكم المشهد الرياضي عموماً والكروي خصوصاً في الأردن؟
تُصاب بحزن شديد عندما تشاهد آلاف الأردنيين الذين ازدحم بهم استاد عمّان الدولي لرؤية مباراة إسبانيا والأردن. بالتأكيد، يتمتع الفريق الإسباني ونجومه بسمعة عالمية، وهو محط اهتمام أي جمهور يذهب إلى أرضه، لكنّ الحالة الأردنية بدت وكأنّنا أمام فريق قادم من الفضاء، وأنّ المسافة فلكية بين الفريقين، وأغلِق استاد عمّان الدولي قبل أسابيع من المباراة لتجهيزه للفريق الضيف، وكأنّ الاستثناء أن يكون الملعب جاهزاً ومناسباً لمثل هذه المناسبات الرياضية فقط!
الرياضات التي ينجح فيها الأردنيون ذات الطابع الفردي عموماً التي لا تعتمد على بناء فرق جماعية
كاد المنتخب الأردني في عام 2014 يصل إلى بطولة كأس العالم، ولعب الملحق مع منتخب أوروغواي، وخسرنا بخمسة أهداف نظيفة في عمّان. لكن لو نجح المنتخب في العبور إلى النهائيات، لكان سيحدث تراجع مرة أخرى، وهكذا، بين صعود وهبوط يستمر أداء المنتخبات الأردنية في كرة القدم وكرة السلة. ويلاحظ متابعون أردنيون أنّ الرياضات التي ينجح فيها الأردنيون هي ذات الطابع الفردي عموماً، التي لا تعتمد على بناء فرق جماعية وما يرتبط بذلك من عمليات طويلة من الإعداد والتأسيس والبناء وتجهيز البيئة المناسبة والبنية التحتية لمثل هذه الرياضات.
من المسؤول؟ سؤال متقدّم جداً، يأتي بعد أن تبدأ، لكنّنا في الأردن لم نبدأ بعد مشروعاً وطنياً بهذا الاتجاه، ما زلنا في مرحلة ما قبل البداية، النمط الذي نتقنه هو الإدارة اليومية للملفات كافّة، ويذكّرني ذلك بكلمة ذكية للصديق الباحث الألماني، أندريه بانك، إنّ الأردنيين محترفون في سياسات قصيرة المدى دائماً (Permanent short-termism)، فالمسؤولية مرتبطة بوجود سياسات ومهمات وخطة استراتيجية وتنفيذية، وهو أمر غير موجود أصلاً في السياسات الرسمية.
الرياضة، ويمكن أن نضيف إليها الثقافة، لا تجد لها مكاناً على طاولة الحكومات، ليس فقط ضمن أولويات الحكومات، بل في أجندتها أصلاً، فما تزال الحكومات تنظر إلى الرياضة والثقافة بوصفها أموراً خارج إطار الحسابات والمسؤوليات المطلوبة منها، بالرغم من أنّهما يمثلان اليوم ملفاً على درجة كبيرة من الأهمية، لا يقلّ عن الملفات الداخلية والخارجية الرئيسية، فالرياضة تدخل في صميم الأمن والاستقرار الداخلي وصورة الدولة في الخارج، كما نرى مع منتخبي إسبانيا والأرجنتين وأندية عالمية تستقطب ملايين المتابعين في العالم.
لم تعد الرياضة والثقافة والفنون أموراً هامشية، بل أصبحت أساسيةً بالنسبة للشعوب، وجانباً مهماً في القوة الناعمة للدولة، وترتبط هذه الأمور بالصحة والأمن والتعليم والخدمات المقدّمة للمواطنين. لذلك تكون البداية بالانتقال إلى "إدراك سياسي" مغاير في "العقل الرسمي" في التعامل معها.
لا تؤخذ حصص الرياضة في مدارس عديدة على محمل الجدّ، ولا حتى الأنشطة الرياضية، بالرغم من أهميتها الكبيرة في عملية التنشئة الصحية، نفسياً وذهنياً وجسدياً، ولا يتم منح الرياضة جزءاً مهماً من التقييم السنوي، ولا حتى في عملية الدخول إلى الجامعات. على النقيض من ذلك، تهتم الجامعات العالمية بدرجة كبيرة في الطلاب المميزين في المجالات الرياضية والأنشطة التطوعية والمبادرات المجتمعية مثلاً، وهو أمر من الضروري أن يؤخذ بالاعتبار في التربية والتعليم في الأردن.
تبدأ الحلقات الأولى من ربط المدارس بالأندية وبالبنية التحتية المناسبة لممارسة الأنشطة الرياضية، ثم التحول بالرياضات نحو المفاهيم والمنظورات الاستثمارية التي تستدخل القطاع الخاص بصورة بنيوية في هذا المجال، ما يساعد على نقله بصورة نوعية خطوات واسعة إلى الأمام، وهذا وذاك يتطلبان خطة استراتيجية للرياضة الأردنية والأندية التي تمثّل مؤسسات مهمة وحيوية في المجتمع المحلي.
وجود نادٍ ناجح في محافظة معينة سيؤدّي إلى سلسلة من التغيرات الإيجابية المهمة في الفضاء العام
ثمّة فوائد ومكاسب كبيرة في تعزيز الثقافة الرياضية في مجتمعاتنا، بالإضافة إلى الانتقال نحو الاحتراف والاستثمار المدروس، فالرياضة لها دور كبير في تحصين الأجيال الجديدة من المخدّرات والتطرف والانحراف، ومخاطر الأمراض والسمنة، وغير ذلك من آفات ابتليت بها المجتمعات اليوم تحت وطأة التحولات الكبيرة في أنماط الحياة الراهنة وأنظمتها.
وجود نادٍ ناجح في محافظة معينة سيؤدّي إلى سلسلة من التغيرات الإيجابية المهمة في الفضاء العام، وعلى مختلف المستويات؛ سيؤدي ذلك إلى جماهير محبّة للنادي الذي تتابعه وتشجعه وتشعر بالفخر والانتماء له، وسيتم تجميع التبرعات والعمل من الناشطين على تأمين مصاريف النادي، ومخاطبة رجال الأعمال في المدينة أو حتى القطاع الخاص خارجها، وسينعكس ذلك من خلال السعي من مجلس المحافظة والسياسيين فيها إلى تعزيز البنية التحتية الرياضية، ثم تطوير بناء الفئات العمرية في النادي المنخرطين في الرياضات المختلفة، وربط النادي بالمدارس والجامعات إن وجدت لاستقطاب المهارات في تلك المحافظة، وفتح تجارة مرتبطة بالنادي، مثل الهدايا التذكارية والملابس وغيرها من أمور. وهكذا فإنّ وجود أندية قوية فاعلة يؤثر بصورة كبيرة على المزاج الاجتماعي في المحافظة، ويوجّه الطاقات في المسارات الإيجابية، ويؤدي إلى تصعيد نجوم ومؤثرين في المجتمع.
ليست الفروق عموماً مرتبطة بالمهارات الفردية، لكن الألعاب الرياضية، بخاصة الجماعية، لا تنهض فجأة وبصورة اعتباطية، بل تتطلب تأسيساً وبنيةً تحتيةً وسياسات وتشريعات ومسارات تؤدّي إلى أن يكون أمراً عادياً وطبيعياً مشاهدة نجوم منتخب إسبانيا أمام نجوم المنتخب الأردني، من دون أن يكون هنالك شعورٌ بالنقص لدى الجمهور!
*العربي الجديد