استراتيجكس: كيف سترد واشنطن على هجمات 28 يناير؟
نفذت الجماعات المسلحة المدعومة من إيران هجوماً غير مسبوق على قاعدة عسكرية سرية عند الشريط الحدودي بين الأردن وسوريا، أسفر للمرة الأولى منذ الحرب في قطاع غزة عن سقوط 3 قتلى وأكثر من 40 جريحاً بين الجنود الأمريكيين بحسب البنتاغون. وبينما تتكشف تفاصيل الهجوم تدريجياً، فقد أحاطت به مجموعة تساؤلات حول أسباب التأخر الأمريكي في الإفصاح عنه، والكيفية التي تسللت بها الطائرة المُسيرة متجاوزة القواعد الدفاعية المتقدمة من بينها حامية التنف القريبة من مكان الاستهداف المعروف باسم "البرج 22" وهو قاعدة عسكرية استراتيجية. وبذلك فإن هذه الهجمات تعتبر نقطة تحول في سياق التصعيد الذي تشهده المنطقة، وقد يترتب عنها تداعيات عدة، تتحدد بشكل أوضح بعد تبيان الخيارات الأمريكية للضربات الانتقامية، ونطاقها ومكانها.
مسرح الهجوم
جاء الهجوم الذي تبنته ما تُعرف بالمقاومة الإسلامية في العراق على حسابها في منصة تيليجرام في 28 يناير 2024، وهي مظلة تضم عدداً من الفصائل المسلحة المدعومة من إيران، ضمن مجموعة من الهجمات المتزامنة ضد أربعة أهداف؛ منها ثلاث تتواجد بها مواقع أمريكية على طول الحدود الأردنية السورية، وهي قاعدة الشدادي، وقاعدة الركبان، وقاعدة التنف، وموقع رابع في إسرائيل وهو منشأة زفولون البحرية.
ومنذ اندلاع الحرب في قطاع غزة في 7 أكتوبر 2023، وما رافقها من تصعيد إقليمي، تعرضت القوات الأمريكية في سوريا والعراق إلى أكثر من 160 هجوماً بالصواريخ والطائرات المُسيرة، وفي حين أن جميعها لم يُسفر عن قتلى أو إصابات بليغة، أو أضرار مادية جسيمة، فإن الولايات المتحدة غالباً ما كانت تُقابل تلك الهجمات، بضربات انتقائية مُصممة لتجنب توسيع الصراع في المنطقة.
لكن هجوم 28 يناير، مختلف من نواحي عدة أهمها:
1- أن هجوم غير مسبوق من حيث عدد القتلى في صفوف الجنود الأمريكيين في جولات التصعيد بين القوات الأمريكية والجماعات المسلحة العراقية منذ اندلاع الحرب في قطاع غزة في 7 أكتوبر 2023.
2- أن مسرح الهجوم لم يكن متوقعاً، إذ تُشير التقارير أن الجنود في القاعدة المستهدفة اعتقدوا أن الطائرة المسيرة "المفخخة" هي طائرة أمريكية كانت في مُهمة وعلى وشك الهبوط داخل القاعدة.
3- أن القاعدة المعروفة باسم "البرج 22" ضلت سرية لحين تنفيذ الهجوم واعتراف البنتاغون بها للمرة الأولى علانية، وتضم ما يقرب 350 من الجنود الأمريكيين.
هجوم ودوافع
من الواضح أن الهجوم مُصمم ليخلف قتلى وجرحى في صفوف القوات الأمريكية، حيث إن عدد القتلى والجرحى غير مسبوق حتى في أشد جولات التصعيد المتكررة بين الطرفين، ومن غير الوارد أن يكون هذا العدد ناتج عن خطأ في الحسابات، بقدر ما يُشير إلى الدقة في اختيار الهدف، ونقطة الاستهداف، بحيث توقع أكبر عدد من القتلى والإصابات بين الجنود الأمريكيين دون غيرهم، وباستخدام طائرة مُسيرة مفخخة كبيرة.
وبشكل عام يلحظ المُتابع للتصعيد منذ اندلاع الحرب في قطاع غزة، تطوراً في نوعية وكمية الهجمات التي تنفذها الجماعات المسلحة المدعومة من إيران، في لبنان واليمن وسوريا والعراق، حيث تمكن الحوثيين في استهداف ناقلة نفط في البحر الأحمر بصاروخ باليستي مضاد للسفن ما أدى إلى اشتعال النيران فيها، وذلك يُشير أن قدرات الحوثيين لا تزال فعالة سواء في الرصد أو الاستهداف بالرغم من الضربات الجوية الأمريكية-البريطانية المشتركة ضد منشآت حوثية في اليمن، وتكثيف التواجد العسكري البحري الأمريكي والأوروبي في البحر الأحمر، وفي لبنان أعلن حزب الله عن استخدامه للمرة الأولى صواريخ (فلق 1) ذو الرأس الحربي شديد الانفجار ضد ثكنة معاليه غولان الإسرائيلية، ناهيك عن إعلان ما تُعرف المقاومة الإسلامية في العراق، لهجمات عدة ضد منشآت استراتيجية إسرائيلية، من بينها ميناء أسدود، ومنشأة زفولون البحرية التي استهدفت في هجوم 28 يناير، مع الإشارة إلى عدم تأكيد إسرائيل الهجومين.
ومن المُرجح أن ذلك التوسع يرتبط بجُملة من المتغيرات، منها تعمق العمليات العسكرية الإسرائيلية في جنوب قطاع غزة، وتحديداً خانيونس، حيث تعتقد إسرائيل بوجود قادة حركة حماس، والأسرى، في تلك المنطقة، بالإضافة إلى شعور طهران بالمخاطر الحقيقية التي باتت تُحدق بأوراقها في القضية الفلسطينية، لا سيما ما يتعلق منها بعلاقاتها مع الفصائل الفلسطينية، وإصرار واشنطن على تمرير مخططاتها بشأن اليوم التالي للحرب، والذي يستند على إدارة السلطة الفلسطينية لقطاع غزة والضفة الغربية وبشكل يستثني الفصائل والشخصيات التي تمتلك علاقات مع إيران.
من جهة أخرى؛ باتت المخاطر تطال كل من إيران وحلفائها، إذ فقدت إيران ثلاث من أبرز قادة فيلق القدس، منهم رضي موسوي، مسؤول اللوجستيات والدعم في فيلق القدس، إضافة إلى مسؤول استخبارات فيلق قدس ونائبه، في غارات إسرائيلية، فيما تظهر الولايات المتحدة والدول الأوروبية عزمهم على تقويض قدراتهم على شن هجمات بحرية، وحشد الدول الغربية سفنها الحربية في البحر الأحمر، وهو ما يفرض على إيران إعادة توزيع جغرافيا التصعيد، لتخفيف الضغوط عليها وعلى حلفائها، وتشتيت الجهد العسكري الأمريكي بين جبهات متعددة.
خيارات الرد
في يناير عام 2020، تطور التصعيد بين الجماعات المسلحة العراقية والقوات الأمريكية، إلى غارة أمريكية اغتالت قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني، وقد كانت الضربة تهدف إلى وضع حد للهجمات ضد الجنود والبعثة الدبلوماسية الأمريكية، ولردع إيران عن تنفيذ أي هجمات مستقبلية، وفي ضوء تلك الأهداف يُحتمل أن يكون شكل ونطاق الرد الأمريكي على مقتل 3 من جنوده في 28 يناير 2023، مع فوارق رئيسية بين الحادثين، ففي العام 2020 كان هناك خشية من إقحام المنطقة في التصعيد، في حين أن الإقليم اليوم يعيش حالة غير مسبوقة من التصعيد على امتداده، ومن المؤكد أن ذلك سيأخذ بالاعتبار في أي ضربة أمريكية انتقامية.
وبالرغم من حالة شبه اليقين بشأن الضربة الأمريكية المتوقعة، والتي أكدها بيان البنتاغون حول توافق الرئيس الأمريكي جو بايدن، ووزير الدفاع لويد أوستن على ضرورة الرد، إلى جانب اتجاهات المسؤولين السياسيين والعسكريين المؤيدة للضربة الانتقامية، إلا أنه من الصعب التنبؤ بشكل ونطاق تلك الضربة؛ من حيث كونها ضربة واحدة أو ضربات متدرجة، وهل تستهدف الجماعات المسلحة أم الأهداف الإيرانية، وهل ضرب الأهداف الإيرانية سيكون على أراضيها أم خارجها؟ ومن تلك التساؤلات يُمكن توقع مجموعة الخيارات الأمريكية للرد كالآتي:
أولاً: خيار الرد الحاسم
وذلك بضرب إيران داخل أراضيها، من خلال استهداف وتدمير منشآت تصنيع عسكرية وتحديداً مصانع الطائرات دون طيار أو الموانئ الإيرانية، ويعتبر توجيه هكذا ضربة الاستخدام الأقوى لمفهوم الردع ضد طهران، وحاسماً من حيث أضراره التي تفوق هجمات 28 يناير، مع ذلك قد يترتب عن هذا الخيار تداعيات عدة، من ضمنها توسيع خيارات الرد الإيراني المستقبلية، والذي ستكون مجبرة عليه بعد أن تنازلت عن الرد على الضربات الباكستانية في أراضيها.
ثانياً: خيار الرد المتناسب (المكافئ لمستوى هجوم 28 يناير)
ويندرج ضمن هذا الخيار ضرب أهداف إيرانية خارج أراضيها، أو شن سلسلة غارات عنيفة ضد الجماعات المسلحة المدعومة من إيران وتحديداً كتائب حزب الله التي ترجح واشنطن أنها نفذت الهجوم. وهو الخيار الأكثر ترجيحاً، من حيث تناسبه مع هجمات 28 يناير، ولا يخلق حالة من الاستنفار في إيران تدفعها للانتقام، فقد تغاضت عن الغارات الإسرائيلية التي قتلت ثلاث من قادة فيلق القدس في سوريا، وفي الوقت نفسه يرفع هذا الخيار من مستوى الردع بين الطرفين.
ثالثاً: خيار الرد الدفاعي
تقتصر الضربات في هذا الخيار على الجماعات المسلحة المدعومة من إيران، وبشكل مماثل للضربات السابقة من خلال استهداف مقار أو قادة ميدانيين في تلك الجماعات، مع ذلك فإن هذا الخيار مستبعد نظراً لقصوره في تحقيق الردع، وقد يُشجع على استمرار الهجمات ضد القوات الأمريكية بوتيرة أعلى.
وأخيراً؛ فإن الرد الأمريكي ضمن الخيارات الثلاث السابقة، محكومة إلى جانب التصعيد في المنطقة بجملة من المحددات في الداخل الأمريكي، لا سيما انطلاق الانتخابات الأمريكية، وحاجة بايدن لمزيد من الاستقرار الإقليمي وبشكل لا يؤثر على حملته الانتخابية، لكنه في الوقت نفسه يواجه تُهم بالضعف تجاه إيران خاصة من الجمهوريين، وكل ذلك يدفع لترجيح خيار الرد المتناسب