استراتيجكس: التصعيد الحوثي والتداعيات المترتبة على المنطقة
صعّد الحوثيون في اليمن من هجماتهم ضد الأراضي والمصالح الإسرائيلية، وقد نُقلت المواجهة من استهداف مدينة إيلات، إلى الهجمات ضد السفن التجارية المرتبطة بإسرائيل في البحر الأحمر، فخلال شهر ديسمبر 2023، نفذت الجماعة أكثر من 100 هجوم بطائرات مسيرة وصواريخ ضد 10 سفن تجارية، بالإضافة إلى هجمات ضد السفن الحربية الأمريكية، وهو ما دفع 18 شركة شحن لتجنب طرق البحر الأحمر، من بينها كبرى شركات الشحن العالمية مثل شركة البحر الأبيض المتوسط للشحن، وميرسك، وهاباج لويد، وشركة النفط بي بي. وفي 19 ديسمبر أطلقت الولايات المتحدة تحالف "حارس الازدهار" لحماية خطوط الملاحة الدولية وهو التحالف الذي وافقت على الانضمام إليه أكثر من عشرين دولة. وفي ضوء هذا المتغير في الحرب، فإن بعض الدول العربية وتحديداً الأردن ومصر والدول الخليجية، ستجد نفسها في مواجهة مزيد من التداعيات والأضرار التي خلفتها الحرب، ومع عدم إظهار الحوثيين نيتهم التراجع عن تصعيدهم، فذلك يُنذر بمخاطر سياسية واقتصادية وأمنية على المنطقة.
الهجمات الحوثية: المصالح والمتطلبات
منذ العام 2011، سيطر الحوثيون على مناطق واسعة من شمال اليمن وفي العام 2014 استولوا على العاصمة صنعاء، وقد طوروا عبر الدعم المباشر من إيران وحزب الله اللبناني من قدراتهم العسكرية لا سيما البحرية منها بشكل لافت، إذ تستحوذ الجماعة على ترسانة متعددة من الأنظمة الصاروخية بعيدة المدى، والطائرات المسيرة، والقوارب المسيرة، والصواريخ المضادة للسفن، ويقع ضمن ترسانتها صاروخ طوفان الذي يصل مداه 1900 كيلومتر، وصواريخ قدس التي يصل مداها 2000 كيلومتر، وطائرات صماد المسيرة التي يصل مداها 2000 كيلومتر، بالإضافة إلى أنظمة الاعتراض البحرية الموجهة والمزودة بالمجسات، والألغام البحرية وغيرها.
ووفقاً لمسؤولين غربيين يتواصل الدعم الإيراني للحوثيين، في هجماتهم ضد السفن المرتبطة بإسرائيل، حيث لا يمتلك الحوثيين رادارات لرصد السفن، كما تغلق العديد من السفن أجهزة الاتصال بمجرد مرورها من مضيق باب المندب، إلا أن طهران تزود الحوثيين بالمعلومات الاستخباراتية عبر سفينة متمركزة في البحر الأحمر، مهمتها توجيه الصواريخ والمسيرات إلى أهدافها.
وفي الواقع، ينخرط الحوثيون في استراتيجية إيران المعروفة بوحدة الساحات، وهُم جزء من محور ما يمسى بـ"المقاومة"، وبالرغم من أن انخراطها ومشاركتها في الحرب لم تُحدث فارقاً في ميدانها الرئيسي في قطاع غزة، إلا أن للجماعة مصالح مُركبة عن هجماتها وموقفها، حيث تسعى لتعزيز صورتها المحلية، ليس فحسب بكونها تتبنى خطاباً معادياً للولايات المتحدة وإسرائيل، بل وتترجمه على أرض الواقع أيضاً، وهي بذلك تحاول تعزيز مكاسبها في مواجهة خصومها المحليين، وفي أي محادثات مستقبلية لحل الأزمة اليمنية، ومن جهة أخرى؛ أظهر الحوثيون قُدرة على التأثير بما يفوق وزنهم العسكري والسياسي، من خلال تهديد التجارة الدولية في واحد من أهم المضائق البحرية ومناطق الاختناق الاستراتيجي في باب المندب، والذي يمر عبره 12% من التجارة العالمية، بما في ذلك حوالي 8% من إمدادات النفط العالمية.
وهو ما دفع بالدول الغربية لفتح قنوات تواصل معهم، فقد أعلنت اليابان أنها أجرت محادثات بعد اختطاف سفينة تُشغلها اليابان، وبذلك فهم يحاولون إجبار العالم على التعامل معهم بوصفهم سلطة حاكمة بأمر الواقع، وقد عملت على إضفاء صبغة من "الشرعية" المقابلة على وجودها السياسي والعسكري من خلال إطلاق التسميات الرسمية على تشكيلاتها السياسية والعسكرية، مثل "القوات المسلحة اليمنية" و "القوات البحرية" و "وزارة الدفاع".
من جهة أخرى؛ فإن ترجمة الحوثيين خطابهم المعادي لإسرائيل والولايات المتحدة، يهدف إلى استقطاب متعاطفين جدد على المستوى المحلي والإقليمي، وبالرغم من أن هجماتهم لم تؤدي إلى وقف الحرب، إلا أنها جاءت بتأثيرات اقتصادية على إسرائيل، إذ قيدت الحركة التجارية المتجهة لإسرائيل عبر البحر الأحمر وميناء إيلات، فقد ذكر الرئيس التنفيذي لميناء إيلات، غدعون غولبر، أن نشاط الميناء تراجع بنسبة 85% في الثلث الأخير من ديسمبر 2023، بالإضافة إلى أن الطريق البديل للحركة التجارية عبر رأس الرجاء الصالح، يُطيل وقت النقل لأكثر من أسبوعين، بالإضافة إلى الكلف المضافة على الشحن.
الهجمات البحرية ونذر التصعيد الإقليمي
إن استمرار الهجمات الحوثية يترتب عنها تداعيات وأضرار مباشرة وملموسة نسبياً في مجالات الأمن والتجارة، إذ أفسحت المجال أمام الحضور العسكري الغربي والإسرائيلي في البحر الأحمر، وقد استقدمت الولايات المتحدة بوارج حربية جديدة، وأرسلت بريطانيا فرقاطة جديدة، وأصدرت التحذير الأخير للحوثيين من استمرار هجماتهم، ويمكن ملاحظة التزايد في حالات الاشتباك المباشرة ما بين الولايات المتحدة والحوثيين، فقد أعلنت القيادة المركزية الأمريكية، أن مروحيات أمريكية أغرقت 3 قوارب صغيرة من أصل 4 وقتلت من فيها، وسبق لمدمرة أمريكية أن اسقطت صواريخ حوثية كانت تستهدفها على ما يبدو، كما أسقطوا طائرة أمريكية دون طيار من طراز إم كيو-9 في نوفمبر 2023.
وبالرغم من أن هجمات الحوثيين تأتي ضمن استراتيجية "وحدة الساحات" وهي جزء من تصعيد جماعي لوكلاء وحلفاء إيران في المنطقة لا سيما من لبنان والعراق وسوريا، إلا أن جبهة اليمن، تكشف عن استراتيجية إيرانية أوسع للضغط على مناطق الاختناق الاستراتيجية المتمثلة في مضيقي باب المندب وهرمز، وذلك يتعدى كونه تهديداً إقليمياً، بقدر ما يعبر عن تهديد عالمي، ويُغير من معادلات الردع القائمة بين إيران وكل من الولايات المتحدة وإسرائيل، وبشكل مختلف تماماً عن مبدأ الهجمة مقابل الهجمة، حيث التأثير في حالة الحوثي استراتيجي ويخلف أثاراً اقتصادية واجتماعية وسياسية.
مع ذلك؛ فإن الولايات المتحدة تدرك ان عملية "حارس الازدهار" لن تُثني الحوثيين عن هجماتهم، وأن تسيير الدوريات المشتركة في البحر الأحمر ليس خياراً مستداماً، بل إظهار الضعف تجاه تلك الهجمات وتأجيل الرد عليها، قد يدفع بالحوثيين لتجربة أساليب وهجمات أخرى، إلا أن الخيارات المطروحة أمام واشنطن لدرء تلك التهديدات قد لا تكون مثالية بالمقابل، حيث أن الحلول العسكرية وتوجيه ضربات دقيقة ضد الأصول العسكرية الحوثية وأماكن تخزين الزوارق المسيرة والطائرات المسيرة وكذلك ضد منصات إطلاق الصواريخ الباليستية. قد يدفع بالبحر الأحمر ليُصبح بيئة أمنية مضطربة، وهُناك خشية من الانزلاق في حرب إقليمية، أو الدفع بمزيد من الهيمنة الإيرانية على المضائق ومحاولتها توسيع النزاع البحري نحو هرمز والمحيط الهندي، فقد سبق أن اتهمت الولايات المتحدة، إيران بالضلوع مباشرة في مهاجمة ناقلة كيماويات قرب الهند، وقد نفت طهران صلتها بالهجوم.
التداعيات على الدول العربية
ترغب الدول العربية في وقف الهجمات الحوثية، والحد من تداعياتها، لكنها في الوقت ذاته، تُفضل أن يتم ذلك من خلال احتواء الحرب في ميدانها الرئيسي بقطاع غزة، ووقف إطلاق النار، ولذلك رفضت الدول العربية باستثناء البحرين المشاركة في التحالف الأمريكي الحديث لحماية الملاحة البحرية في البحر الأحمر، إذ تنظر له بوصفه تحالفاً يسعى لفك الحصار عن إيلات، أكثر من كونه هادفاً لحماية الملاحة البحرية بشكل عام، والتفافاً على إمكانية الضغط على إسرائيل للسماح بالمساعدات الإنسانية من الدخول إلى قطاع غزة. كما أن الحسابات العربية تختلف عن تلك الأمريكية والغربية، حيث تسعى السعودية إلى وضع حد للحرب في اليمن والوصول إلى حل للازمة هناك عبر الأطر الدبلوماسية والحلول السياسية، ومن شأن انضمامها إلى التحالف أن يُعيد الأزمة في اليمن إلى المربع الأول.
يقوم مضيق باب المندب، بربط خليج عدن بالبحر الأحمر، وصولاً إلى قناة السويس التي تربط البحرين الأبيض بالأحمر، ومنها تعبر السلع والبضائع إلى الأسواق في آسيا وأوروبا، ومن شأن الاضطرابات في ممرات الشحن بالبحر الأحمر أن تؤثر على قناة السويس، ما يدفع بالسفن بعيداً عنها، ففي الفترة بين 19 نوفمبر و17 ديسمبر، حولت 55 سفينة مسارها من قناة السويس إلى مسار رأس الرجاء الصالح، ولا يكمن التخوف المصري من تأثر أحد مصادر العملة الصعبة لديها فحسب، حيث هناك من يرى أن الأمر قد يصل إلى جوانب سياسية ذات حساسية عالية بالنسبة للقاهرة، إذ أن إطالة أمد حالة عدم الاستقرار في البحر الأحمر، قد يؤدي إلى زيادة الضغط على مصر لقبول تسويات سياسية لها علاقة بمستقبل الوضع في غزة.
كما تطال الأضرار الأردن الذي يستورد قرابة 85% من احتياجاته الغذائية، منها 65% تمر عبر باب المندب إلى ميناء العقبة؛ المنفذ البحري الوحيد للبلاد، فإن تعطل الشحن عبر البحر الأحمر يقطع تدفق البضائع القادمة من البحر على البلاد، ويقوض أحد الشرايين الرئيسية للاقتصاد الوطني. وحتى مع عودة بعض شركات الشحن الكبيرة للعبور من البحر الأحمر إلا أن أسعار الشحن والتأمين ارتفعت بأكثر من الضعف، وقد أدى اضطراب الشحن إلى تأجيل وصول بعض الشحنات إلى الأردن، وذلك يضغط على الاقتصادين الأردني والمصري ويهدد بارتفاع أسعار السلع المستوردة، والتي ما لبثت تتعافى من اضطرابها السابق جراء الأزمة الأوكرانية التي اندلعت في ربيع 2022. ولذلك؛ أعلن الأردن حظراً على تصدير سلع غذائية أساسية، من بينها الأرز والسكر والزيوت النباتية، وفي 26 ديسمبر التقى وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي بنظيره المصري سامح شكري، لنقاش قرار تشغيل الخط العربي للنقل البري والبحري بين ميناء العقبة والموانئ المصرية على البحر المتوسط، كبديل عن البحر الأحمر ومضيق باب المندب، الذي أُعلن عنه بتاريخ الثالث والعشرين من الشهر ذاته.
علاوة على ذلك؛ فإن هجمات الحوثيين، تطرح تحديات أمنية وعسكرية خاصة بإطلاقها للصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة على إيلات، حيث تبعد إيلات عن مدينة العقبة حوالي 16 كيلومتر، فيما تبعد عن طابا المصرية نحو 7 كيلومترات، وهذا يعني أن الهجمات الحوثية تشكل مخاطر عدة، من حيث تأثر الأراضي العربية بعمليات الاعتراض، أو سقوط الصواريخ نتيجة لعدم دقة توجيهها، كما أن أجهزة التشويش الإسرائيلية تفقد الصواريخ الحوثية قدرة التوجيه والوصول إلى الهدف، ما يهدد بسقوطها في أراضي عربية، وقد سبق أن سقطت إحدى تلك الصواريخ في مناطق غير مأهولة بالسكان في الأراضي الأردنية.
ويتمثل التهديد الأبرز، في حفاظ إيران على قدرات تُمثل مصدر قلق للدول العربية، واحتمالات العودة بالمنطقة لحالة من الصراع والاضطراب الواسع بشكل مماثل للمراحل اللاحقة لما يعرف بالربيع العربي عام 2011، وهذا يضع الخطوات العربية الرامية للانفتاح والمصالحة، وتوجيه الجهود نحو مشاريع التنمية الوطنية والمشتركة العابرة للحدود، عرضة للتعثر تحت وقع السياسات الإيرانية التصعيدية سواء عبر اليمن أو لبنان أو سوريا أو العراق.
وأخيراً؛ فإنه ومع استمرار الحرب في غزة، فإن ما ينتج عنها من تحديات وتهديدات على المنطقة؛ مركبة ومعقدة، وقد تقود إما لزيادة العسكرة في المنطقة، أو مواجهة مخاطر التمدد الإيراني ومرحلة جديدة من تعزيز نفوذها في قضايا وملفات جديدة، خاصة أن الحرب أكسبتها أوراق قوة في أي مفاوضات مستقبلية مع الولايات المتحدة، وأثبتت قدرتها على نقل المواجهات مع خصومها خارج أراضيها وبشكل غير تقليدي.