"ابتسم أيها الجنرال" وميكيافيلي
لم يكن مسلسل "ابتسم أيها الجنرال"، الذي انتهى عرضه على شاشتي "التلفزيون العربي 2" و"سوريا"، وثائقياً عن تجربة عائلة الأسد في الحكم، وإنّما مارس المؤلف المميّز سامر رضوان تقنيات جديدة ذكية في جذب اهتمام المشاهدين عبر استراتيجية الاتصال المباشر مع حيثياتٍ ربطها المشاهدون بالحالة السورية (المستوى الجزئي الميكرو)، والانفصال عن الأحداث وتقديم صورةٍ أكثر عموميةً عن واقع الأنظمة العربية السلطوية (المستوى الكلي الماكرو)، وديناميكيات الحكم الذي يقوم على الاستراتيجيات الأمنية البوليسية في إدارة الدول.
تجاوز النصّ الجرأة والشجاعة في التصدّي للمسكوت عنه في السياسات العربية، وهي الميكانزمات البوليسية التي إما أن تحكُم مباشرةَ أو من وراء حجاب، بل أيضاً كان هنالك إبداع أدبي وفني في الانتقال من "حيثياتٍ" مشابهة للواقع في "نظرية الحكم البوليسي" إلى إطار عام يفضح واقع الحالة العربية عامة، وإن تباينت نسبياً من دولةٍ إلى أخرى!
لم تكن الاقتبسات من ميكيافيلي في بداية كل حلقة من حلقات المسلسل مجرّد "إضافةٍ" أدبيةٍ بلا قيمةٍ للنص، وإنّما كانت رسالةً بذاتها، تقول للمواطن العربي إنّ هنالك فلسفة ثاوية وراء هذه السياسات، وهي الانتهازية والمصلحة الشخصية وتحالف المصالح الدولية والمحلية، وصفقات داخلية وخارجية. والأهم من هذا وذاك سياسات أمنية احترافية خطيرة متمرّسة في "سيكولوجيا الجماهير"، تعتمد على ميكانزماتٍ عديدة، سواء "خلط الأوراق" التي أشار إليها المسلسل في أوقاتٍ كثيرة، أو "مسرح الدمى" ولعبة الأدوار، وهنالك مشروع صهيوني وسياسات غربية تتحالف مع الأعداء لتحقيق مصالح متبادلة. وللأسف، الضحية في هذه الحالات جميعاً هو الإنسان العربي وإنسانيته وحقوقه الأساسية!
ما قيمة المسلسل في زمن الردّة العربية عن الربيع الديمقراطي وأحلامه وتجديد العهد مع الديكتاتورية والتسلطية في أشرس نسخها، في دول عربية عديدة اليوم؟! الجواب هو الرسالة الإنسانية الأخلاقية السياسية في مكافحة الاستبداد وكشف الآليات والسياسات التي تقوم عليها الأنظمة البوليسية، وإعادة التموضع في تعريف معركة الإنسان العربي، بدايةً ونهايةً، وهي الحرية والكرامة والعدالة، والقانون، وهي الشعارات التي رفعتها الشعوب العربية في مرحلة "الربيع" الموؤودة، وحدثت عملية انقلاب تاريخية علنية عليها.
قد يبدو المسلسل فعلاً سباحة ضد التيار، في وقتٍ نرى فيه جميعاً السياسات الدولية والإقليمية تقوم على الصفقات، بما يخدم الأنظمة السلطوية ورهاناتها. ومع ذلك، إنّه يعطي نفساً جديداً للقضية التاريخية في هذه المنطقة، وهي الحرية. هو (المسلسل) إدانة للديكتاتورية وفضح لسياساتها وفسادها الأخلاقي، ومرافعة عن أسباب التغيير ومبرّراته الأخلاقية والنفسية والمجتمعية، وبالتالي، هو استئناف لمقالة الديمقراطية العربية وتأكيد على شرعيتها.
ستكون لدى خصوم المسلسل حجج سياسية عديدة، بخاصة من يرون أنّ المعركة الداخلية، وهي الحرية، ليست أولوية أمام المعركة مع "الإمبريالية"؛ وسيتهمون المؤلف (سامر رضوان) بأجندة معادية. ولكن عليهم أن يتذكّروا أنّ ميكيافيلي نفسه، عندما كتب "الأمير"، قدّمه في إطار مبرّرات أخلاقية ووطنية، ترتبط بوحدة إيطاليا وشعارات الأمن و"مقتضيات السياسة"، ومفهوم "الدولة القوية". لكن الكتاب وما انبثق عنه لم يؤدّ إلى خير الشعوب والأمم، بقدر ما كان دليلاً للاستبداد، بل هو في حدّ ذاته ترجمةً للدروس التاريخية من الحكم "الاستبدادي" الناجح!
في الخلاصة، يمثل المسلسل تجربة فنية كفاحية ضد عمليات الترميم الكبرى التي تجري للسلطوية العربية. والنهاية، وإن كانت قد تبدو نجاحاً لتلك السياسات الفاشية، إلاّ أنّ المقصود منها "استفزاز" دعاة الإصلاح والحرية للنهوض من جديد، وعدم الرضوخ للمنطق البوليسي الحاكم، الذي ينظر إلى الشعوب بوصفها "حشرات"، والقوى التي تحاول أن تحكم بوصفها "غير مؤهلة"، ولا تعرف كيف تُدار الدول. ولعلّ نجاح المسلسل، برغم الظروف الإقليمية العربية، التي تحجّم من الكوادر الفنية والممثلين الذين يقدّمون مثل هذا النموذج في الوقت الراهن، يمثل شمعةً في مرحلةٍ شديدة الظلمة. العربي الجديد