إعلام "الوجبات السريعة" يحتل المشهد

الرابط المختصر

بعد انتشار صحافة الإنترنت في البلد خلال العامين الأخيرين، فإن تغيرات واضحة حصلت على ماهية المضمون الإعلامي، خاصة، الأخبار التي تبثها هذه الصحافة، وعلى طريقة بثها أيضا. 

من جملة هذه التغيرات على الأخبار، أن كل شيء، أو كل حدث في ذهن الكثير من العاملين في هذه المواقع،أصبح خبراً يستحق النشر، وسقط درس الخبر الابتدائي الذي يتلقاه طلبة الإعلام في السنة الدراسية الأولى لتقويم ما يستحق النشر وما لا يستحق، وهو الدرس الذي أصبح مثلاً حتى عند من ليس لهم شأن في الصحافة.

فيما يستحق النشر من الأخبار كان الدرس يقول إن عض كلب رجلاً، فهذا ليس خبراً، والعكس، ففيما لو عض رجل كلباً، حينها يصير خبراً.

أمس، نشر أحد المواقع خبراً يقول :" العثور على شعرة في قطعة شوكلاته"،
وفي أخبار أخرى نشرت سابقا جاء، مثلاً :

" ديك ينهش طفلاً"،
"الأفاعي تنتشر في مقبرة السلط"،
"رجال يبولون في ساحة مسجد"، أو
"أردني يتزوج من خمسة عشر امرأة"، أو
"موظف يعترض على نقله إلى منطقة اخرى"،
"مشاجرة على باب ملهى ليلي".
"عجوز تستعيد بصرها بعد نصف قرن إثر قذفها بثمرة حنظل على عينها
"

بالإضافة إلى ذلك، فإن أغلب المواقع تفرد مساحات واسعة لنقل أخبار الفن والفنانين، بما في ذلك الأخبار التي لا تعني سوى صاحبها، أو انها أخبار تقتصر على نخبة محددة من الفنانين وتدخل في إطار "النميمة" أو "الشائعات" أكثر مما هي أخبار تخص الفن والإبداع والموسيقى، مع تجاهل واضح للفن والموسيقى البديلة في الأغلب، من مثل: اعتكاف هيفاء وهبي في رمضان، أو حمل وولادة نانسي عجرم، أو الخلافات بين إليسا وأمل حجازي، وهكذا.

لكن عملية اختيار الأخبار لا تقتصر على مثل هذه النوعية فقط، فهناك مواقع كاملة تقوم على عملية إعادة تدوير للأخبار الأكثر إثارة، بغض النظر عن طبيعة هذه الأخبار، سواء كانت سياسية أم فنية أم اجتماعية. فيما تمارس أغلب المواقع عملية إعادة النشر لمثل هذه الأخبار، إما بنسبتها إلى مصدرها، أو، بإعادة صياغتها دون نسبة استنادا إلى أنها أخبار منشورة في عشرات الوسائل الإعلامية، وهكذا يضيع مصدرها الرئيسي.


وتعمد أغلب المواقع إلى إضافة نوع من "الإثارة" على الأخبار التي قد تهم المواطن بدرجة أو بأخرى، مثل أخبار الغلاء، أو المشاجرات الجماعية والعشائرية، وعادة ما توضع عناوين مثيرة لمثل هذه الأخبار، حتى في حال كان "الحدث" لا يستحق الاهتمام الجدي، أو لا يستحق النشر بالمعنى الإخباري.

وتبرز الإثارة أكثر ما تبرز في اختيار عناوين الأخبار، لدرجة أن العنوان قد يبتعد كثيرا عن مضمون المادة أو يتناقض معها، كما أشار إلى ذلك الكاتب فهد الفانك في مقالته في "الرأي"، 26/6، إذ يقول: "المشكلة أن بعض المحررين يضعون عناوين لا تعبر عن الخبر بالشكل الصحيح، إما بسبب السرعة وضيق الوقت، أو لعدم فهم الخبر، كما يحدث عادة في الأخبار الاقتصادية."

 ويضيف تعليقا على عنوان لا يتناسب مع متن أحد الأخبار: "إما أن المحرر لم يقرأ الخبر بإمعان، أو أنه أساء فهمه، أو أنه قصد إعطاء القارئ انطباعا معينا خدمة لأجندة خاصة مثل انتقاد الحكومة أو الدفاع عنها."

وإضافة إلى إضفاء نوع من الإثارة في العناوين أو المتن، فإن الخبر لا يكون وافيا، ففي أخبار المشاجرات العشائرية مثلا، لا يمكن أن يجد المتلقي اي معلومات وافية عن طبيعة المشاجرة، وربما أسبابها، ولا أية خلفية عنها أو عن المشاجرات العشائرية، ولا يعرف المتلقي، مثلا، كم عدد المشاجرات التي وقعت خلال عام، ولا نسبتها إلى أعوام أخرى.

أو كما يقول طاهر العدوان في مقالته بصحيفة "العرب اليوم" (28/9)، المعنونة " هوشات وطوشات": "هذه وتلك (عنوان المقالة) أصبحتا خبراً شبه يومي في وسائل الإعلام والصحافة. (فالهوشة) بين شخصين تتحول إلى (طوشة) بين عشيرتين، ولم يعد (الخبر) هو موضوع ما يحدث، إنما اسم العائلات والعشائر المنخرطة فيه".

وتؤدي عملية "الإثارة" هذه و اقتطاع الخبر من سياقه، والتركيز أحيانا كثيرة على الصور ومقاطع الفيديو لوحدها، وقلة المعلومات، والتحليل والخلفيات، واقتصار الخبر على بعض المجريات، التي تكون في مرات كثيرة مغرقة في تفاصيل زائدة، يؤدي كل هذا إلى تشتيت قدرة المتلقي على تكوين صورة شاملة عن الحدث، وربطه بالأحداث الأخرى، والخروج باستنتاجات قريبة من الواقع.

سبب الخلاف بين المحللين والناس على "طبيعة الجريمة" في البلد، مثلا، وعلى مدى انتشارها أو زيادتها، قد يعود إلى طريقة النشر هذه التي لا تقدم للناس المعلومة الوافية والدقيقة.

والحال، فإن أغلب المواقع الإخبارية تتشابه إلى حد التطابق في نقل الأخبار، خاصة ما كان منها يتعلق بالفن أو المجتمع، وبغض النظر عمّـا إذا كانت هذه الأخبار ترتق إلى مستوى الخبر، أم تبقى في إطار "النميمة" فإنها عرضة للنقل أكثر من غيرها، وذلك لأن المحررين يعتقدون أنها أخبار مقروءة أو لأنها من طبيعة الأخبار التي تفقد، لكثرة تداولها، حقوق مؤلفها، ولا تعود عملية النقل مكلفة، أخلاقيا أو مهنياً.

والأمر هنا يعود إلى "إغراق" المتلقي بكم كبير من الأخبار، من "المعلومات السريعة وقليلة التكلفة"، التي لا تهم القارئ مطلقا، ولا تسهم في تحسين مستوى حياته، كما يقول الكاتب إبراهيم غرايبة في مقالته المنشورة في جريدة "الغد"، تاريخ (25/9).
يجادل بعض نقاد الإعلام بأن الاحتكارات الكبيرة لوسائل الإعلام أدت، فيما أدت، إلى ظاهرة "الإغراق" هذه، أي إغراق المتلقي بكم هائل من المعلومات السريعة المسلية والترفيهية، حتى في السياسة، وبأقل تكلفة لإزاحة المنافسين من الطريق.

وصار بالإمكان مثلا قراءة أو سماع أو مشاهدة أخبار كثيرة تركز على شخصية الرئيس أو المرشح الرئاسي أو النيابي الفلاني وزوجته وعائلته وكلابه و"فضائحه" الشخصية أكثر من تناولها لبرامجه التي من المفترض أنه يخوض الانتخابات أو يعمل على أساسها.

وفي الأردن، صار أمراً عاديا قراءة أخبار يومية عن "بورصة أسماء" المرشحين للدخول في الحكومة أو الخارجين منها، أو من سوف يشكل الحكومة القادمة، أو أين يقضي رئيس الوزراء والوزراء إجازتهم، أو ماذا فعل الوزير الفلاني خلال عطلة العيد، أو أخبارا عن الدعوات والعزائم والجاهات وسيجار الوزير وبدلة الوزير وسيارته ومدارس أبنائه، أو عن هذا المسؤول الحكومي أو ذاك الذي شوهد يقود سيارته في الشارع الفلاني أو يتسوق من "المول"...الخ، دون أن يكون لمثل هذه الأخبار أي مدلول سياسي أو إفادة للجمهور، سوى تسلية الناس وإشباع رغباتهم في "التلصص" على حياة الآخرين، وخلق "طلب قسري" عليها عن طريق إيهام المتلقي بأهميتها.

ومؤخرا اتبعت المواقع تقليداً ببث أخبار "المجتمع"، أو هكذا تطلق عليه، فيما الحال هو بث أخبار قصيرة عن الوفيات والجاهات، الزواج وحفلات الخطوبة والتخرج في الجامعات وغيرها.

لكن هناك ما هو أكثر من ذلك، فقد كسرت المواقع النمط التقليدي المحافظ من العلاقات، الذي كان سائدا بين وسائل الإعلام التقليدية في التعامل فيما بينها، وصار مألوفا قراءة مواد تذمّ صحفيين أو مواقع أخرى، وبعض هذه المواد يخرج عن إطار الأخلاقيات إلى حد التشهير والابتزاز والتهديد، وتقدم هذه المواد على أنها أخبار.

ومع تطور وسائل الاتصال، كالبريد الالكتروني وأجهزة الهواتف الخلوية، وبروز ظاهرة "المواطن المخبر" فقد صارت بعض المواقع، وأحيانا، الصحف لا تتورع عن نشر كل ما تتلقفه عبر هذه الوسائل، كما حدث مع تقرير صحيفة "الغد" حول الأردني الذي تزوج بـ15 امرأة، او خبر العثور على شعرة في قطعة شوكلاتة أو الديك الذي نهش الطفل.

لكن المثير في مثل هذه الحالات، هو ليس قيام المحررين بنشر الأخبار، وإنما بنشرها "كما وردت من المصدر"، دون أي جهد على المادة لتخرج "مستحقة" للنشر.

وقد بلور خبراء إعلاميون مصطلح الـ" Junk Media " ، أي "إعلام الوجبات السريعة"، لوصف وتحليل هذا النمط من الإعلام الذي خلقته الاحتكارات الكبيرة للوسائل الإعلامية لطرد المنافسين من السوق من خلال تقليل التكاليف، أو لأسباب أخرى تعود إلى المصالح الاقتصادية والأجندات السياسية.

على أن الأردن، لا يوجد فيه احتكارات كبيرة لوسائل الإعلام، وخاصة "صحافة الإنترنت"، فبالإمكان أن يقوم أي مواطن بتصميم وبث موقع الكتروني في غضون أيام وبأقل التكاليف الممكنة.


لكن القصة تبقى نفسها، أي إغراق القارئ بإعلام "الوجبات السريعة" والابتعاد عن التقويم الحقيقي لما يستحق النشر من الأخبار، واجتزاء الأحداث من سياقها، وقلة المعلومات، وتضاربها وعدم دقتها، فما هي الأسباب:

إلى جانب التأثر بنمط عمل وسائل الإعلام الكبيرة في ظل العولمة، فقد أضيفت أسباب أخرى من بينها، كما يعتقد بعض خبراء الإعلام، طبيعة "الإنترنت" كوسيلة إعلامية.

يقول "إمبراطور" الإعلام روبرت مردوخ إن "جيلا جديدا من مستخدمي الإعلام، نما على أن يحصل على المحتوى ساعة يشاء، كيفما يشاء، وحتى كما يشاء".

ويضيف أن "القوة باتت تبتعد عن الطبقة المتحكمة القديمة في قطاع الإعلام.. رؤساء التحرير، والمديرين، وحتى المستثمرين". ويرى مردوخ، أنه من التحديات التي يواجهها قطاع الإعلام اليوم، الاستفادة من ثورة الإنترنت، واصفا هذه التقنية بأنها "على الرغم من أنها لا تزال جنينا، إلا أنها تدمر وتعيد بناء أي شيء في طريقها". ليصل مردوخ، إلى حد القول بأن "الإعلام سيصبح مثل الوجبات السريعة.. يستهلكها الناس خلال حركتهم، حيث يشاهدون الأخبار، الرياضة والأفلام خلال السفر على أجهزتهم الجوالة".

لكن إذا كانت طبيعة الإنترنت كوسيلة إعلامية تفرض هذا النمط من السرعة والاختصار والتكثيف في الخبر، فهذا قد يصح في تفسير جانب السرعة، والتنافس على السبق، على ما في هذا الجانب من مضار لناحية عدم الدقة، لكنه لا يصح كثيرا في تفسير طبيعة الأخبار المبثوثة، ومدى فائدتها للجمهور، وبعدها عن "إعلام التسلية" وحسب.

لا شك أن زيادة عدد المواقع والتنافس فيما بينها، وقلة التمويل، والاعتماد على "المواطن الصحفي"، والتفكير النمطي لدى الكثير من المحررين، بأن "الجمهور عاوز كده"، وضعف الحريات العامة، ونقص الخبرة والثقافة والمتابعة، وفساد بعض الصحفيين، قد تكون من بين أسباب اخرى لهذا "الإغراق" المتواصل للناس بالأخبار التي لا تفيد أحدا، أو بالمعلومات "السريعة وقليلة التكلفة" التي إن أدّت إلى شيء فهي تؤدي إلى تشتيت عقـل المواطن ومنعه من تكوين رؤية شاملة موضوعية ومتوازنة عن الظروف التي يعيش بها.

وكما تسبب "وجبات المأكولات السريعة" إرباكا لمعدة الناس وتتسبب في ظهور أمراض كالسكري وفقر الدم وغيرها، فإن "إعلام الوجبات السريعة" يؤدي إلى إرباك وتشويش رؤية المتلقي، وعدم الاستفادة من المعلومات في تحسين حياته، وعدم قدرة على تكوين رأي واقعي.

في ضوء غياب إعلام الخدمة العامة، وتغول إعلام الوجبات السريعة يبرر العاملون في الإعلام سيادة هذا النمط بالقول: الجمهور عاوز كده، لكن يبقى سؤال الكاتب ابراهيم الغرايبة قائماً: "هل صحيح أن القراء يفضلون بالفعل التسلية والصور؟ هل صحيح أنهم لا يريدون المعلومات الدقيقة والوافية؟ وأنهم لا يرغبون في متابعة التحليلات والاستقصاءات والتحقيقات الصحفية الموسعة والتي بذل في إعدادها جهود وتكاليف طائلة؟ ثمة إجابة نمطية إغراقية بـ"نعم"، ولكنها فكرة لم تخضع لاختبار دقيق وموضوعي، وأخشى من القول إنه يجري تنميط وهيمنة على اتجاهات وأذواق المجتمعات، وينسب ذلك زورا إلى العرض والطلب، فليس معقولا ولا يمكن التصديق أن هذه النسبة العالية جدا من الجامعيين والمهنيين والسياسيين والنخب تفضل الأبراج ووصفات الطهو وصور النجوم وأخبارهم والمباريات الرياضية، وليس معقولا أن هذا الغياب الإعلامي المفزع عن المهن والمصالح والأعمال والمطالب والاحتياجات والأولويات والسياسة والإدارة والاقتصاد هو قضية سوق وعرض وطلب!".