كيف تتسع هوّة التعليم في الأردن بسبب عدم المساواة؟- الجزء الأول

أطفال العائلات الثرية يحققون درجات جيدة فيما أقرانهم من العائلات الفقيرة يحققون درجات متدنية
ارشيفية\اعتصام لحملة "ذبحتونا" للدفاع عن حقوق الطلبة
الرابط المختصر

 ها هم الأهل في الأردن وحول العالم أجمع يجدون أنفسهم في أعقاب جائحة فيروس كورونا المستمرة أمام خيارات صعبة لا بدّ منها حول الطرق الأمثل لاستخدام الموارد المالية المتناقصة للأسرة. ومن الأولويات المهمة للأهل الأردنيين، الحرص ألا ينتهي الأمر بأطفالهم في الجانب الخطأ من هوّة التعليم الآخذة في الاتساع. وبعد عام من  البحث والتقصي لأغراض هذه السلسلة، اتضح أن  العائلات التي تقطن في المحافظات التي ازداد الدخل فيها بنسب أكبر تسجل أطفالها في المدارس الخاصة بمعدلات أعلى. أما المناطق الأفقر، يميل الأهل فيها في معظم الأحيان إلى تسجيل أطفالهم في قطاع التعليم  الحكومي المتعثّر أساساً. وأمسى بالتالي التعليم الخاص الجيد وإمكانية تحقيق مستقبل مزدهر رفاهية لا يمكن تحمل تكلفتها للبعض مع العلم بأن الأهل عادةً ما يدركون المقابل الذي يحصلون عليه لأموالهم. تبحث هذه السلسلة مسألة عدم المساواة في نظام التعليم الأردني والخطوات الممكن للأهل و الهيئات الناظمة اتخاذها حيال الأمر.

الجزء 1: انعدام المساواة في صلب قطاع التعليم الأردني

في حين أن جميع الأردنيين تقريبًا يكملون تعليمهم الابتدائي، إلا أن سؤالًا واحدًا كفيل بترجيح  ما إذا كان الطفل قد أنهى المرحلة الثانوية وهو: "كم يبلغ دخل أسرتك؟".

وأتت أحدث البيانات لعام 2015 جازمة، إذْ إن ثلاثة من كل عشرة أطفال ينتمون إلى الأسر الأردنية الأكثر فقراً أكملوا تعليمهم الثانوي مقارنة بثمانية من كل 10 أطفال ينتمون إلى أغنى العائلات. نصل إلى استنتاج مماثل بالنظر إلى  أداء الطلاب في اختبارات  عالمية لتقييم مستوى طلاب المراحل الاساسية والثانوية في مجالات مختلفة. كلما كانت الأسرة أكثر ثراءً زاد في  المقابل احتمال اجتياز الطالب للاختبار بغض النظر عن مستواه.

واستندت هذه القصة في سردها إلى بيانات حكومية وبيانات من الأمم المتحدة وهيئات أخرى لفهم الديناميكيات الكامنة وراء إمكانية الحصول على التعليم الجيد في الأردن. بالاضافة الى تقارير وزارة التربية والتعليم الاحصائية السنوية  للأعوام الدراسية 2017-2018 و 2018-2019 و2012-2013. والتي تستند إلى بيانات من نظام إدارة المعلومات التربوية (OpenEMIS) وهو منصة معترف بها دوليًا ابتكرتها اليونسكو للتخطيط التعليمي الاستراتيجي. تعتمد هذه القصة كذلك على قاعدة البيانات العالمية بشأن التفاوت في التعليم (WIDE) التي تجمع بين بيانات مسح السكان والصحة الأسرية (DHS) ودراسات مسحية عنقودية متعددة المؤشرات (MICS) وبيانات مسح للأسر ودراسات تقييمية للتعليم لأكثر من 160 دولة. تتيح لنا هذه المصادر مجتمعة فهم مخرجات النظام التعليمي الحالي وفعاليته او تقصيره في خدمة كافة الطلاب سواسية.

 ميزانية التعليم في الأردن آخذة في الانكماش

بينما يشهد الاقتصاد الأردني وتيرة نمو بطيئة، ينحسر الاستثمار في  قطاع التعليم الرسمي في المقابل. واستنادًا إلى موجز ميزانية عام 2019 لقطاع التعليم الرسمي الذي أعدته اليونيسف والمجلس الاقتصادي والاجتماعي وكذلك بيانات تقارير رفعت إلى البنك الدولي، انخفضت مخصصات التعليم من الإنفاق العام في الأردن على مرّ السنوات الماضية من نسبة كانت تتخطى 7% من الناتج المحلي الإجمالي في منتصف التسعينيات إلى أقل من 4% منذ  سنة 2013 ليمسي بالتالي الاستثمار الحكومي في التعليم في الأردن أقل من  4.75٪ من الناتج المحلي الإجمالي وهو المتوسط في ​​منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.انحسار الصرف على التعليم لا ينحصر فقط على نسبته من الاقتصاد بشكل عام (GDP) فقد شهدت الأعوام الاخيرة انخفاض بالصرف على التعليم كجزء من ميزانية الدولة فقد انخفض الإنفاق على التعليم من إجمالي الميزانية الحكومية خلال الفترة 2016-2018 من حوالي 13٪ إلى أقل من 12٪.

 

نتائج الأطفال الفقراء متدنية منذ صغرهم

رغم الصعوبة التي يواجهها معظم الأطفال الأردنيين لاجتياز الاختبارات المعيارية الدولية، فإن ثروات عائلاتهم تستشرف نجاحهم أم رسوبهم. يشارك الأردن في اختبارات تقييم دولية واسعة النطاق منذ عام 1991 من بينها الاختباران المعترف بهما دوليًا لتقييم أداء الطلاب "الاتجاهات في الدراسة العالمية للرياضيات والعلوم (TIMSS)" و"البرنامج الدولي لتقييم الطلبة" (PISA). يتم من خلال اختبار"الاتجاهات في الدراسة العالمية للرياضيات والعلوم (TIMSS)" تقييم أداء طلاب الصفين الرابع والتاسع في مادتيْ الرياضيات والعلوم بينما يتم من خلال "البرنامج الدولي لتقييم الطلبة" (PISA) تقييم أداء الطلاب البالغين 15 عامًا (الصف العاشر) في الرياضيات والعلوم والقراءة مع العلم أن لكل من التقييميْن أربعة مستويات من الصعوبة: متقدم وعالي ومتوسط ​​ومتدنٍ.

 

في حين اجتاز 4 من كل 10 أطفال المستوى الأول من تقييم  TIMSS الخاص بالرياضيات، نجح 3 فقط من كل 10 أطفال من العائلات الأكثر فقراً مقارنة بـ6 من كل 10 من أطفال العائلات الأكثر غنى. ويستمر هذا الاتجاه حتى المستوى الثالث: حيث ينجح طفل واحد من كل 10 أطفال ينتمون إلى الأسر الأكثر فقراً مقابل 3 من كل 10 من الطلاب المنتمين إلى العائلات الأكثر غنى. هذا وتأتي نتائج العلوم متطابقة تقريبًا. لا يوجد عامل آخر يضاهي أهمية عامل الثروة في ترجيح احتمالية رسوب أو نجاح الطالب. وتسجل الفتيات بشكل عام درجات أعلى بقليل من الأولاد ويسجل الأطفال في المناطق الحضرية نتائج أعلى قليلاً من أطفال المناطق الريفية. أما الطلاب الذين يتحدثون في المنزل اللغة الانجليزية والتي يتم إجراء الاختبار بها يحققون درجة أعلى قليلاً من الطلاب الذين لا يتكلمون الانجليزية في المنزل ولكن الفارق الأكبر حتى الآن هو معدل نجاح الأطفال الأثرياء مقارنة  بأقرانهم من العائلات الفقيرة. وهذه ليست مشكلة جديدة إذ لا تزال هذه الهوة بين الأغنياء والفقراء ثابتة منذ أول مرة نُشرت فيها البيانات عام 1999. ولا تحدد البيانات المقدمة ما إذا كان الأطفال يرتادون  المدارس الحكومية أو الخاصة.

فجوة الأداء لا تزال قائمة حتى بالنسبة للطلاب الذين وصلوا إلى المرحلة الثانوية العليا

 

تبقى نتائج درجات تقييم PISA الذي يخضع له من هم في سن 15 عامًا من الطلاب مرتبطة إلى حد كبير بثروة أسرهم. ففي عام 2015، اجتاز 8 من كل 10 طلاب المستوى الأول من اختبار PISA للقراءة: 7 من أصل 10 من الطلاب الأكثر فقراً و 9 من أصل 10 من الطلاب الأكثر ثراءً. هذا ويزيد احتمال اجتياز المستوى 2 من القراءة لدى الأطفال الأثرياء بواقع أربع مرات مقارنةً بأقرانهم الأكثر فقراً فيما يزداد بواقع ثماني مرات عند المستوى 3. الفارق متشابه في العلوم والرياضيات. وفي ظل تفوّق الفتيات بشكل ملحوظ على الأولاد، لا تزال الهوة الكبرى مرتبطة بالثروة وهي تزداد كلّما تقدّم مستوى الامتحان. في عام 2012، أكمل 3 فقط من كل 10 أطفال ينتمون إلى الأسر الأكثر فقراً المرحلة الثانوية بالمقارنة مع 8 من كل 10 أطفال من العائلات الأكثر ثراءً.

 

بالنسبة لأولئك الذين بلغوا المستوى الجامعي، الوضع الاقتصادي لا يزال عاملًا مهمًّا

في ظل العدد المحدود للطلاب الفقراء الذين يتمكنون من بلوغ المستوى الثانوي، فإنهم يمثلون نسبة ضئيلة على المستوى الجامعي إذ أن اثنين من كل عشرة ينتميان إلى العائلات الأكثر فقرًا يرتادون الجامعة بالمقارنة مع ستة من كل عشرة ينتمون إلى عائلات أكثر ثراءً من بين من شملهم الاستطلاع في عام 2012 و المتراوحة أعمارهم بين 18-22 عامًا. في الأردن، كان أربعة من كل عشرة شبان يرتادون الجامعة، بحسب مسح السكان والصحة الأسرية في الأردن لعام 2012.

هذا ولا يُعتبر عدم تكافؤ فرص الالتحاق بالتعليم الجامعي ظاهرة مستجدة. ففي عام 2012، بلغ احتمال إتمام سنتيْن جامعيتيْن على الأقل لدى أبناء العائلات الميسورة في أواخر العشرينيات من العمر أربعة أضعاف الاحتمال لدى نظرائهم من الأسر الفقيرة. فواحد فقط من كل عشرة أشخاص في أواخر العشرينات من العمر من الأسر الفقيرة أكمل أربع سنوات من التعليم العالي مقارنة بخمسة من كل عشرة من أبناء العائلات الثرية. على الرغم من أن الأشخاص في أواخر العشرينيات من العمر هم أكثر ترجيحاً لإكمال أربع سنوات من التعليم الجامعي مقارنة بمن هم في مقتبل الثلاثينيات من عمرهم، إلا أن الهوة بين معدلات إتمام الدراسة لدى الأثرياء والفقراء لم تشهد أي تغيير يُذكر.

ويستمر هذا التوجّه طوال سنوات تعليم الطفل  حيث تبقى فرصة الالتحاق بالجامعة لدى الطلاب من العائلات الثرية أكبر. سيظل الطلاب من العائلات الثرية يتمتعون بفرص أكبر لبلوغ الجامعة. فبغض النظر عن جنس الطالب أو مكان إقامة الأسرة، تبقى الثروة هي العامل المسيطر في تحديد ما إذا كان الطالب يلتحق بالتعليم العالي أم لا. وبناءً على المسح الديموغرافي والصحي لعام 2012، من بين كل 10 طلاب من العائلات الأكثر غنى، يلتحق 6 طلاب بالتعليم العالي، وذلك مقابل 2 فقط من كل 10 طلاب من العائلات الأكثر فقرًا.

 

التعليم الخاص قد يكون المحرك الخفي وراء هوّة الأداء والثروة

قد تكون المدارس الخاصة خيارًا حتميًا للأهل لتوفير تعليم أفضل لأطفالهم في الأردن. وفقًا لأحدث نتائج أظهرها تقييم "الاتجاهات في الدراسة العالمية للرياضيات والعلوم (TIMSS)" وتقرير TIMSS الخاص بالأردن لعام 2015 الصادر عن المركز الوطني لتنمية الموارد البشرية، يتفوق الطلاب في المدارس الخاصة على المدارس الحكومية. ولا تتوافر أي بيانات حول الأداء الفردي للمدرسة سواء كانت خاصة أو رسمية أو حتى أداء المدارس الخاصة مقارنة بالمدارس الحكومية على مستوى المحافظة ولكن الرسالة واضحة للأهل ألا وهي التعليم الأفضل أعلى كلفة.

وبصفتها مدرِّسة فيزياء عملت في القطاعيْن الرسمي والخاص، تطلعنا أسماء مهنا على وجهة نظر من داخل الجسم التعليمي حول التعليم الذي يتلقاه الأطفال الفقراء والأغنياء. عملت أسماء في المدارس الحكومية لمدة خمس سنوات وسبقتها 11 سنة في اثنتين من المدارس الثانوية الخاصة المعروفة في عمان.

بناءً على تجربتها فإن المدارس الخاصة مجهزة بشكل أفضل ولديها فصول دراسية أقل ازدحامًا مع التركيز بشكل أكبر على دعم أنشطة التعلم، مما يساهم في إرساء تعليم عالي الجودة.

ومن العوامل الأخرى المؤثرة هي قدرة الأهل على إكمال التحصيل العلمي الذي يتلقاه أطفالهم في المدرسة وتعزيزه. وقالت في هذا الصدد: "لا أريد أن أقول إن الأهل الميسورين يهتمون بشكل أفضل بأداء أطفالهم لأنني أعرف أولياء أمور آخرين لطلاب في المدارس الرسمية يسعون جاهدين لمنح أطفالهم أفضل تعليم، ولكن بشكل عام، الأهل من ذوي الموارد المالية الميسورة قادرون على توفير دروس خصوصية إضافية لأطفالهم أو إرسالهم إلى مراكز ما بعد المدرسة في حال وجود  أي ضعف لديهم".

فالتعليم لا يتوقف عند انتهاء اليوم الدراسي. وأشارت أسماء إلى أن بيئة الطالب وصحته النفسية هما عاملان مساهمان كذلك الأمر. واستنادًا إلى تجربتها في المدارس الحكومية للفتيات، قالت إن بعضهن، وخاصة في المرحلة الثانوية العليا لا ينوين مواصلة دراستهن إذ تسعيْنَ، بدلاً من ذلك في بعض الحالات إلى الزواج المبكر هروبًا من واقعهن وهو عامل آخر قد يؤثر على نتائج اختبار البرنامج الدولي لتقييم الطلبة (PISA). وتشعر الكثير من الفتيات بأنهن أقل منزلة من أقرانهن بسبب وضعهن المالي مما يسبب لهن ضغوطًا كبيرة قد لا يعرفن كيفية التعامل معها خاصة في هذه السن المبكرة. وقد يكون للأولاد الفقراء أسبابهم الخاصة لعدم بذل جهد في تعليمهم مع اقترابهم من سن الرشد.

وباء كوفيد-19 قد يفاقم التباينات الحالية

قد يؤدي الوضع الحالي إلى تزايد الفجوة القائمة بين الفقراء والأغنياء. فمن وجهة نظر أسماء، أصبح التعليم حالياً يعتمد على التكنولوجيا والموارد الداعمة الأخرى أكثر من أي وقت مضى والتي يجب توفيرها في المنزل لكل طفل. إمكانية الوصول إلى التكنولوجيا والإنترنت وتوفير مكان مخصص للدراسة وقدرة العائلات على دعم التعلم في المنزل هي عناصر يحددها  عامل الثروة. وفي حين أن قرار بث المواد الدراسية عبر التلفزيون من قبل وزارة التربية والتعليم مفترض أن يعزز قدرة الأطفال الذين لا يمتلكون حاسوب شخصي محمول أو حاسوب لوحي على الوصول إلى هذه الموارد، تبقى الأسر المفتقرة إلى الموارد اللازمة في وضع غير مؤاتٍ لا سيما مع العدد الكبير للأطفال في المنزل وقلة التفاعل مع الأساتذة.

سننشر  في الأسابيع المقبلة القصة الثانية ضمن هذه السلسلة والتي تحقق في مدى ارتباط ثروة الأسرة بقدرتها على تعليم أطفالها بإلقاء نظرة عميقة داخل محافظتيْن: الأولى تشهد تقدّمًا بينما الأخرى تسجل تدهورًا في وضعها الاقتصادي. وسوف نتناول في أعقاب ذلك كيفية تأثير هذه العوامل على قرارات الأهل بشأن كيفية تعليم أطفالهم.