أريج: تعويضات ضلت "الطريق"
يكشف هذا التحقيق عن تجاوزات في استخدام أموال صُرفت من المجلس الحاكم للجنة التعويضات في الأمم المتحدة، ضمن برنامج تعويضات بيئية للأردن، يستهدف مربي الماشية في البادية الأردنية. أُنشئت طرق تخدم مزارع خاصة من مخصصات رصدت لإنشاء طرق زراعية تسهل انتقال مربي الماشية إلى المراعي.
"كل واحد ونشاطه ومعرفته وقوته، إلي وضعه كويس ومزبط حاله يصله الشارع، خلطة لعند مزرعته وماشي حاله"، قالها حمد الطوافشة وهو يعبر طريقاً مُعبّداً بين مزارع خاصة. كان يقود مركبته بموازاة قطيعه، متوجهاً إلى أحد المراعي في منطقة المشنشلة، في لواء البادية الشمالية بمحافظة المفرق (شمال الأردن).
عند نهاية الطريق المُعبّد، انحرفت المركبة إلى اليمين لتدخل طريقاً ترابياً وعراً. يقول حمد، الذي يملك قطيعاً من الماشية: "الطريق متهالك، حتى الدواب ما تمشي معك... هذا أولى طريق في البادية إنه يتعبّد".
شملت التعويضات البيئية إنشاء طرق زراعية لتسهيل حركة مربي الماشية في البادية
طريق منسي
صمّم حمد على مواصلة السير بمركبته، فيما شعرنا أن المركبة ستتوقف في أي لحظة، معلنة عجزها عن تجاوز الصخور والنتوء على الطريق.
تزايدت مخاوفنا عندما قال مضيّفنا: "كل ما أجيب نقلة مياه لغنمي، أو بجيب علف أو بنقل، قاعد ابنشر (تتعطل إطارات السيارة) على الطريق وتتعطل سيارتي".
دقائق معدودة، وبدأت عشرات بيوت الشعر بالظهور على جانبي الطريق.
ما إن وصلنا إلى المنطقة حتى تجمع حولنا عدد من السكان. انطلقوا في حديثهم مع حمد، وكأنهم يستكملون حواراً سابقاً. تعالت أصواتهم وهم يشكون وعورة الطريق، وصعوبة الوصول إلى نبع ماء قريب يسقون ماشيتهم منه، أو بلوغ مناطق يرعى فيها "الحلال"، كما يصفون مواشيهم.
احتدم النقاش بين الرجال، ليقطع حديثهم صوت حمد وهو يقول: "روحوا للمسؤول وخليه يطلع يشوفكم، يا زلمة حدا داري (يعرف بأمركم) عنكم".
أخبرنا حمد أن الطريق يخدم ما يزيد على مئتي عائلة في البادية، تستعمله للوصول إلى المياه. يقول حمد بحسرة: "هذه أكبر معاناة في البادية، ومن زمان، وما في مسؤول إلا يعرف عنه".
ويضيف حمد: "الطرق الزراعية عامة كلها تعبانة، كل الطرق الزراعية بحاجة إلى شغل وبحاجة إلى فتح وتعبيد، في إشي بعده ترابي". مؤكداً أن تلك الطرق يستخدمها مربو الماشية، ومَن يزرعون القمح والشعير.
يمكن الوصول إلى التحقيق المصور عبر الرابط
تعويضات بسبب الحرب
عام2005، حصل الأردن على تعويضات من المجلس الحاكم للجنة التعويضات في الأمم المتحدة، عن الأضرار البيئة التي سببتها حرب الخليج في مناطق البادية الشرقية، والشرقية الشمالية. تضمن البرنامج إنشاء طرق زراعية؛ لتسهيل وصول مربي الماشية إلى مناطق الرعي.
تسببت الحرب في تسعينيات القرن الماضي، بانتقال أعداد هائلة من قطعان الماشية من العراق إلى البادية الشرقية والشرقية الشمالية؛ ما أثر سلباً في الغطاء النباتي والمراعي فيها. قدّمت الحكومة الأردنية مطالبات للمجلس الحاكم للجنة التعويضات في الأمم المتحدة، تطالب فيها بالتعويض عن الأضرار البيئة، التي سببتها حرب الخليج في تلك المناطق.
شملت التعويضات البيئية، التي تشرف عليها وزارة البيئة الأردنية، إنشاء طرق زراعية لتسهيل حركة مربي الماشية في البادية، والوصول إلى المساقط المائية المستهدفة هناك، وإعادة تأهيل الأنظمة البيئية فيها. تَشغل المساقط المائية مساحة من الأرض تُصرّف المياه الناتجة عن هطول الأمطار وانصهار الثلوج، وتوجّه تدفقها لتصب باتجاه الجداول والأنهار.
"غياب الطرق الزراعية الملائمة تشكل العقبة الأبرز أمام مربي الماشية"
بدأت الحكومة بتنفيذ مشروع الطرق الزراعية عام 2014. وقّعت وزارة البيئة اتفاقية مع وزارة الأشغال؛ لإنشاء طرق زراعية بقيمة 1.4 مليون دينار أردني، ضمن برنامج التعويضات البيئية، خُصّص نحو ربعها لإنشاء طريقين في منطقة المشنشلة بلواء البادية الشمالية، بمحافظة المفرق.
هجرة الرزق وبُعد الشُقة
يوضح محسن الشنابلة، من سكان قضاء أم القطين في لواء البادية الشمالية، أن طرقاً في المنطقة تمّ تعبيدها لا تخدم مربي الثروة الحيوانية؛ في حين يفتقر اللواء إلى البنية التحتية المناسبة.
يرى محسن، وهو رئيس جمعية زراعية، أن غياب الطرق الزراعية الملائمة تشكل العقبة الأبرز أمام مربي الماشية، الذين يقصدون أماكن الرعي للتقليل من استخدام الأعلاف. مشيراً إلى أن القطيع الواحد يُدرّ الدخل على أكثر من أسرة من البدو.
وبحسب رئيس الجمعية، يلجأ العديد من مربي الثروة الحيوانية في البادية الشمالية إلى بيع ما لديهم من ماشية بخسارة؛ تشكل مصدر رزقهم الوحيد، ومن ثَمّ هجرة المكان؛ بسبب غياب البنية التحتية الملائمة. مؤكداً أن الطرق الزراعية لا تحظى باهتمام المسؤولين.
تتنشر المحميات الرعوية في محافظة المفرق بمساحة تصل إلى 280 ألف دونم، ويعيش فيها نحو ربع الثروة الحيوانية المسجّلة في البلاد. يستحوذ لواء البادية الشمالية على نحو 40 في المئة من الماشية الموجودة في المحافظة.
يكشف تقرير ديوان المحاسبة للعام 2021، عن إنفاق نحو نصف مليون دينار أردني 539 ألف دينار (759 ألف دولار أمريكي) على طرق في منطقة المشنشلة بمحافظة المفرق، من مخصصات برنامج التعويضات البيئية، تخدم "أصحاب مزارع كبيرة خاصة"؛ وهو مبلغ يعادل ثلث ما خصّص لإنشاء 70 كيلومتراً من الطرق الزراعية في البادية.
يوضح التقرير أن تلك الطرق الواقعة في المشنشلة، لا تحوي مساقط مائية أو مسطحات مائية؛ وإنما تضم بركاً خاصة أنشأها أصحاب المزارع داخل حدود ممتلكاتهم.
وكانت الحكومة الأردنية خصصت نحو 5 ملايين دينار أردني من صندوق التعويضات؛ لإنشاء طرق زراعية، تمّ إنفاق معظمها حتى العام 2021. تضمّن المشروع إنشاء ما يعرف بطريق المشنشلة الخالدية بطول 16 كيلومتراً، وفق استجواب وجهه نائب أردني في العام 2021 إلى وزير البيئة.
يقع طريق المشنشلة الخالدية بمحاذاة طريق بغداد الدولي، الذي يقود إلى الحدود العراقية، ويصل الطريق بين منطقتين وتقع في الجزء الأخير منه مزارع ذات ملكية خاصة.
حصلت أريج على بيانات تؤكد ملكية رجال أعمال وآخرين -تسلموا مناصب مرموقة في الدولة- مزارع تقع على هذا الطريق.
عندما تسير في الطريق، لا تجد صعوبة في الوصول إلى نهايته؛ في حين تبدأ المعاناة عند الدخول في طرق زراعية قريبة، يستخدمها مربو الماشية.
يقول محسن الشنابلة: "فيه مزارع تابعة يمكن لرجال متنفذين، رجال في الدولة لا نعلم مَن هم، مخدومة، لهم شوارع؛ في عمّان الغربية غير موجودة، يتمنى أبناء البادية الشمالية أنها تكون في خدمتهم".
أما حمد، فلم يخفِ استياءه وهو يقود مركبته فوق الطريق المُعبّد: "هسا أنت شفت الشارع مخدوم، خلطة أسفلتية للمزارع، بعد المزارع جاي على وضعنا إحنا يا المساكين، نمشي على التراب".