أبعد من ملف “الإخوان”.. ماذا يحدث بين الدولة والمعلّمين في الأردن؟

 بعد أن تمّ اعتقال نائب نقيب المعلمين، ناصر النواصرة، ومعه أعضاء مجلس النقابة، ومجموعة من المسؤولين عن فروع نقابة المعلّمين في المحافظات، بأيّام عدّة، تم التصدّي من قبل رجال الأمن والدرك لمحاولات المعلّمين الاحتجاج على الدوّار الرابع.

 

المشهد في عمّان مساء الأربعاء 28 يوليو/تموّز كان متوتراً للغاية، الأمن يقطع الطريق على المعلمين واعتقالات بالجملة للعشرات، لكن ما هو غير تقليدي التعتيم الإعلامي الكامل من قبل الإعلام الأردني على المشهد، بأمر من المدّعي العام، الذي منع النشر تماماً، ما جعل المحطّات الفضائية المحلية والصحف والمواقع الإلكترونية خارج التغطية، ومع المحاولات على منصات التواصل الاجتماعي لملء الفراغ -وقد نجحت نسبياً وبكفاءة عالية- إلاّ أنّ خاصية بث الفيديو تمّ تعطيلها في أماكن التجمعات والمواجهات، الأمر الذي يربطه المعلمون بترتيبات حكومية.

 

     هل هي "نقابة الإخوان المسلمين"!

 

في الدعاية الرسمية جرى ربط موضوع المعلّمين، منذ الأزمة السابقة سبتمبر/أيلول 2019، بالإخوان المسلمين، في محاولة من قبل "الحكومة" لاختزال المطالب الاقتصادية والإدارية للنقابة التي تعدّ الأكبر حجماً في البلاد (تضم أكثر من مائة ألف معلّم). وتذرّعت وسائل الإعلام الرسمية بأنّ "الإخوان" هم من يسيطرون على مجلس النقابة بالأغلبية، وأنّ نائب النقيب منهم، لكن ما يجهض تماماً هذه الدعوى أنّ الإضراب السابق الذي شهد نجاحاً تاريخياً لم تستطع أجهزة الدولة اختراقه، ولو بنسبة 10%، فالمدارس جميعاً توقفت عن العمل والمعلمون التزموا بقرار النقابة، في كل المحافظات، ما يؤكّد أن المسألة تتجاوز ملف الإخوان، إلى ما هو أعمق بكثير.

 

نائب نقيب المعلمين، المعتقل حالياً، ناصر النواصرة، هو ابن جماعة الإخوان المسلمين، لكن النقيب الراحل أحمد الحجايا، الذي توفي في حادثة سير (آب 2019)، وليس محسوباً على الإخوان، من قريب أو بعيد، كان يقود التصعيد مع الدولة، إلى حين وقوع الحادثة، فقرر المجلس (الذي يتكون من أعضاء من الإخوان وغيرهم، وبعضهم خصوم للإخوان) الاستمرار في برنامج التصعيد لنيل الحقوق التي يسعون إليها، ومن أبرزها تحسين الدخل والحصول على مساحة أوسع في شؤون المناهج والتعليم والتدريب، واعتراضهم على بعض الأنظمة المعمول بها في وزارة التربية والتعليم مثل "السلّم الوظيفي".. الخ. على النقيض من ذلك كان الإخوان في إضراب 2019 منقسمين، بين من لا يريد التصعيد مع الدولة، ويحاول تجنب الأزمة وبين أبناء النقابة من المعلمين الذين يريدون تحسين ظروفهم المعيشية، ويرون أنّ أيّ تراجع أو تخلٍّ عن مطالب المعلمين سيوسمهم بالخيانة والتواطؤ مع الدولة، أو تفضيل حسابات الجماعة (الإخوان) على زملائهم في المهنة.

 

إذاً موضوع "الأخونة" يأتي على هامش الموضوع، فصُلبه الحقيقي هو التحولات الاقتصادية- الاجتماعية من جهة، والتحولات السياسية من جهةٍ ثانية..

 

التحليل الاقتصادي – الاجتماعي

يعدّ المعلمون من أكبر الشرائح الاجتماعية ووزارتهم من أضخم الوزارات، ويتجاوز عددهم المائة ألف معلّم، أغلبهم في المدارس الحكومية، وقد شهدت مكانتهم الاجتماعية تراجعاً مشهوداً، منذ عقود، حتى بات مستوى معيشتهم متدنياً جداً مقارنةً بالفئات الاجتماعية الأخرى، ومكاسبهم المهنية والوظيفية محدودة، ومستواهم المهني تراجع أيضاً جرّاء مجموعة من العوامل، منها التدهور الملحوظ في مخرجات الجامعات الرسمية، وغياب معاهد إعداد المعلّمين (التي كانت موجودة في عقود سابقة).

 

في المحصلة شعر المعلمون -خلال عقود سابقة بالإهمال الكبير- إلى أن بدأت الأمور تتغيّر مع حراك من المعلّمين يطالب بتأسيس نقابة لهم، وقد كان ذلك خطّاً أحمر عريضاً في أروقة الدولة، خشية من الثقل الذي يمكن أن تشكّله النقابة لأكبر وزارة، وبدعوى التخوف -أيضاً- من تسييس المعلّمين. وما كان محظوراً أصبح مع لحظة الربيع العربي 2011 مباحاً، فتراجعت الدولة أمام المظاهرات الحاشدة وسمحت بتأسيس النقابة، ثم جرت محاولات السيطرة عليها لمنع "الإخوان" وغيرهم من استخدامها كورقة في اللعبة السياسية، لكن النتيجة التي كانت دائماً تحاول مؤسسات القرار تجاهلها أنّه منذ تأسيس النقابة إلى اليوم لم يكن هنالك فرق في المطالب الرئيسية سواء كان على رأسها إخواني أو شخص مقرب من الدولة أو يساري أو حتى قومي!

 

بات المعلّمون اليوم يمثّلون طلائع الطبقة العريضة من القطاع العام التي تدحرجت خلال العقود الماضية من الطبقة الوسطى إلى الدنيا، ما كان يخلق في أوساطهم شعوراً بالغضب والإحباط المتراكم، بل وبالدونية مقارنة بالمهن الأخرى، مثل نقابات المهندسين والأطباء والمحامين، الأمر الذي انفجر مع إضراب العام الماضي وكان هنالك إصرار واضح من المعلمين على تغيير تلك الصورة النمطية عنهم، ونجحوا بالفعل -حينها- في كسب الرأي العام بقوة، وببناء رواية إعلامية تغلّبت على رواية الدولة وأفشلتها، بل وتحوّلوا إلى "حالة رمزية" سواء على صعيد الطبقة الوسطى الدنيا، أو حتى المواجهة مع ماكينة السلطة الصلبة والناعمة على السواء، ونجحوا في إملاء شروطهم وتحقيق انتصار كاسح رمزياً وسياسياً واقتصادياً. 

 

التحليل السياسي وموازين القوى

 مثل ذلك الانتصار لم يكن -بالضرورة- لتقبل به أوساط في مؤسسات القرار، واتّهمت الحكومة بأنّها كانت منقسمة على نفسها ومترددة تجاه الحسم والصلابة في المواجهة، وهو أمر يدرك المراقبون جميعاً أنّه ليس صحيحاً البتة، لأنّ خط التصعيد لم ينجح في إحداث أي اختراق ضد المعلمين، مما دفع الحكومة -في نهاية اليوم- إلى منع الأزمة من التدحرج إلى أزمة مستعصية. 

 

جاءت كورونا لتقلب الظروف الاقتصادية الداخلية، فقامت الحكومة بخصم العلاوات على القطاع العام بأسره، ومن ضمنه المعلّمون، فرفضت النقابة ذلك وبدأت الإعداد لخطوات تصعيدية جديدة بدعوى تخليّ الحكومة عن التزاماتها، ولم تنجح محاولات الوساطة، وانتهى الأمر إلى قرار حاسم في أروقة الدولة بحسم المعركة مع النقابة قبل أن يبدأ العام الدراسي، وكانت القراءة الداخلية تشير إلى أنّ حجم التعاطف معهم من قبل الرأي العام ليس كما كان في العام الماضي.

 

بالفعل وعلى قاعدة "نتغذى بهم قبل أن يتعشّوا بنا"، حضّرت مؤسسات الدولة خطتها جيداً، وبنت أدواتها، وجهّزت السيناريو، وانقضت على مجلس النقابة، وقامت فوراً بربطهم بالإخوان المسلمين، وحظر النشر الإعلامي، وتقديم رواية إعلامية فيها شيطنة للنقيب "الإخواني"، واستثمرت في قانون الدفاع وتعليمات "كورونا" لمنع التجمعات، وحذّرت من رد فعل صلب على أي محاولات لاختراق هذا الواقع.

 

بالرغم من كل تلك الإجراءات ومن مناخ التخويف والترهيب الذي تمّت صناعته لمنع تكرار تجربة المظاهرات الحاشدة، فإنّ بضعة آلاف من المعلمين حاولوا كسر الطوق والتجمع، لكن كان ينقصهم التنظيم والقيادة، فكانت المحاولة رقم 1، ما بعد اعتقال القيادة وتجميد النقابة لمدة عامين، غير مجدية في تغيير الواقع، بالرغم من أنّها -في المقابل- كسرت الحواجز القانونية والنفسية الكبيرة التي أقامتها الدولة للحيلولة دون تكرار سيناريو المظاهرات الحاشدة!

 

المرحلة القادمة: تدحرج الأزمة

 

إذا كان هنالك شيء جديد تكشف عنه الأزمة الحالية بين المعلمين والدولة، فهو أنّ الفجوة الطبقية بديناميكياتها السياسية والثقافية تزداد تعمقّاً وتهدد السلم الأهلي، وما كان موقف مجلس النقباء الذي قاد احتجاجات العام 2018، التي أطاحت برئيس الوزراء السابق وأتت بالحالي، د. عمر الرزاز، إلاّ نموذجاً لهذه الفجوة العميقة! فعندما كانت الدولة تريد فرض ضرائب جديدة وقف المحامون والمهندسون والأطباء وأصحاب رؤوس الأموال ضد ذلك، وقاموا بدعم النقابات وأبناء الطبقة الوسطى والشباب المعولم، ما أدى حينها إلى احتجاجات ضخمة جداً، تميّزت بالتنظيم والترتيب وباستخدام الأدوات الجديدة.

 

 أمّا في مطالب المعلّمين ونقابتهم فتوارى مجلس النقباء عن الأنظار، وهرع إلى المساحة الرمادية في المواقف، ما عزّز من شعور المعلّمين، ومنهم نسبة كبيرة من أبناء المحافظات بأنّه يُنظر إليهم بدونية من قبل الآخرين، وهذا أخطر ما في الأمر، في ظل فجوة ذات أبعاد اقتصادية وسياسية وثقافية ومجتمعية بين عمّان الغربية (حيث تعيش الطبقات الغنية والوسطى العليا) والمحافظات الأخرى، التي لا تعجز أن تسمع من جيل الشباب فيها خطاب الشعور بالتهميش والإقصاء والإحباط والغضب. فصول أزمة المعلّمين لن تذهب فقط بإعادة ترسيم علاقة الدولة بجماعة الإخوان المسلمين، كما نقرأ في الإعلام العربي، فهذه جزئية صغيرة، إنّما في وضع شروط وقواعد جديدة لعلاقة الدولة بالمجتمع وبالقوى المختلفة فيه، وبالعلاقات الاقتصادية الاجتماعية ذاتها، وبنمط إدارة الدولة، إذ كانت الأزمة الأخيرة نموذجاً جديداً يحاكي نماذج عربية أخرى تجنّبها الأردن بصورة كبيرة خلال أعوام الربيع العربي وما تلاه.    عربي بوست

أضف تعليقك