آلية الإحالة الوطنية: منظومة قانونية متقدمة وتحديات في التطبيق

الرابط المختصر

بعد عامين على إطلاق آلية الإحالة الوطنية في أكتوبر/تشرين الأول 2022، والتي قُدّمت آنذاك بوصفها نقلة نوعية في مكافحة الاتجار بالبشر وتنسيق الجهود الرسمية والمدنية لحماية الضحايا، تكشف مراجعة الواقع أن ما بدأ كإطار واعد ما زال يواجه ثغرات في التطبيق، وتأخرا في إنصاف الضحايا، وضعفا في التنسيق بين الجهات المعنية.

"إن الأردن من الدول السباقة في مكافحة جريمة الاتجار بالبشر حيث حرص على توفير آليات الاستجابة الفضلى وعلى كافة المستويات، فمن الناحية التشريعية تم في العام الماضي تعديل قانون منع الاتجار بالبشر ليوائم أفضل المعايير الدولية ويوفر مزيداً من الحماية للمجني عليهم والمتضررين"، بهذه الكلمات رعى أمين عام وزارة العدل للشؤون القضائية القاضي سعد اللوزي حينها حفل إطلاق آلية الإحالة الوطنية وإجراءات العمل الموحدة للتعامل مع حالات الاتجار بالبشر في الأردن.

تهدف هذه الآلية إلى ضمان وصول ضحايا الاتجار بالبشر إلى العدالة، وتعزيز التنسيق بين الجهات الرسمية والأمنية والقضائية ومؤسسات المجتمع المدني، لتحديد الضحايا وحمايتهم وتقديم المساعدة القانونية والنفسية والاجتماعية اللازمة لهم. غير أن مرور عامين على إطلاقها أعاد طرح السؤال الأهم: إلى أي مدى فُعّلت فعلاً هذه الآلية، وهل نالت الغاية التي وُضعت من أجلها؟

مدخل لفهم الإطار القانوني وآلية الإحالة الوطنية

أقرّ الأردن عام 2009 قانون منع الاتجار بالبشر رقم  9 لمواجهة مختلف أشكال استغلال الأشخاص، من العمل القسري إلى الدعارة ونزع الأعضاء والاسترقاق. نصّ القانون على عقوبات تصل إلى الأشغال الشاقة والغرامة، مع ضمان حماية الضحايا عبر المأوى والرعاية الصحية والنفسية والمساعدة القانونية، والحفاظ على سرية هويتهم.

يقول الباحث في القانون العام مهند الشبلي إن هذا القانون شكّل خطوة مهمة في التزام الأردن بالاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان، لكنه ليس الإطار الوحيد الذي يعالج الجريمة؛ إذ تتقاطع نصوصه مع قوانين أخرى مثل قانون العقوبات وقانون العمل وقانون الانتفاع بأعضاء جسم الإنسان ونظام تنظيم المكاتب الخاصة لاستقدام العمالة المنزلية.

خلال الأعوام الأخيرة، خضع القانون لجملة تعديلات هدفت إلى تعزيز حماية الضحايا وتشديد العقوبات على الجناة. ففي عام 2019 توسّع تعريف الجريمة ليشمل تسول الأطفال، واستُحدث صندوق خاص لدعم الضحايا، بينما شدّد تعديل 2021 العقوبات في قضايا استغلال النساء وذوي الإعاقة، وأقرّ حماية أكبر للشهود والقاصرين. وفي 2023، أُدخل تعديل يضمن بقاء الضحايا في ملاجئ آمنة حتى انتهاء التحقيق والمحاكمة.

رغم هذا التطوّر التشريعي، ترى المديرة التنفيذية لمركز تمكين لندا كلش أن الفجوة لا تزال في التطبيق، إذ تبقى الإجراءات التنفيذية ضعيفة ولا تضمن حماية كافية أو إعادة إدماج فعالة للضحايا، لا سيما بين العمال المهاجرين الأكثر عرضة للاستغلال.

ويؤكد مدير منظمة بيت العمال وأمين عام وزارة العمل الأسبق حمادة أبو نجمة أن الضحايا يواجهون صعوبات في الوصول إلى الجهات الرسمية لتقديم الشكاوى، بسبب غياب مسارات واضحة للتبليغ وضعف الثقة بالمنظومة، إضافة إلى الخوف من الانتقام. ومن هنا جاءت الحاجة إلى آلية الإحالة الوطنية التي تعمل اللجنة الوطنية لمكافحة الاتجار بالبشر على تطويرها منذ عام 2022 لتنسيق الاستجابة بين الجهات المعنية.

من جانبه، أشار وزير العدل ورئيس اللجنة الوطنية لمكافحة الاتجار بالبشر بسام التلهوني إلى تسجيل 21 قضية اتجار بالبشر منذ مطلع عام 2025، مقابل 43 حكماً بالإدانة في عام 2024، ما يعكس استمرار التحدي رغم الإصلاحات.

وبحسب وثيقة رسمية صادرة عن مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة بالتعاون مع وزارات العدل والتنمية الاجتماعية والصحة والعمل ومديرية البحث الجنائي، تم اعتماد منهجية جديدة لتوفير الحماية والدعم للمجني عليهم، تشمل نماذج محدّثة للتعرّف على الضحايا المحتملين وتعيين ضباط ارتباط في كل جهة مختصة لضمان سرعة التنسيق وتنفيذ إجراءات الإحالة الوطنية على نحو متكامل.

عامان على الآلية: أين نحن من التطبيق؟

في مراجعة لتطبيق آلية الإحالة الوطنية للتعامل مع حالات الاتجار بالبشر، يمكن تفكيك خطواتها إلى أربع مراحل رئيسية، تبدأ المرحلة الأولى بالتعرف على الضحية المحتملة عبر ملاحظات المستجيب الأول للحالة، بالاستناد إلى نماذج أُعدّت خصيصاً تتضمن أسئلة حول قدرة الشخص على مغادرة عمله، أو تعرضه لانتهاكات، أو طبيعة علاقته بصاحب العمل.

يقول أبو نجمة إن اللجنة أعدّت خمسة نماذج متخصصة ترصد أشكال الاتجار المختلفة: العمل القسري أو الجبري في العمل المنزلي، الاستغلال الجنسي، الاستغلال في العمل، التسول المنظّم، والاتجار بالأطفال، إضافة إلى استمارة بيانات للضحية يملؤها المستجيب الأول. ويوضح أن رصد عدة مؤشرات ضمن أي نموذج يكفي لإحالة الحالة إلى وحدة مكافحة الاتجار بالبشر لمتابعة التحقيق وجمع الأدلة.

مع ذلك، لا توضّح الآلية الأسباب التي تجعل ثلاثة مؤشرات فقط كافية لاعتبار الحالة شبهة اتجار بالبشر، كما لا تشير إلى المنهجية التي تم اعتمادها لاختيار المؤشرات في كل نموذج. وتشير دراسة صادرة عن جمعية تمكين للدعم والمساندة بعنوان "إعادة إدماج ضحايا الاتجار بالبشر بين التشريع والتطبيق" إلى أن عدداً قليلاً فقط من هذه النماذج يُستخدم فعلياً، وتقترح توحيدها في فئة واحدة لتسهيل إدارة الحالات وتسريع خدمات التأهيل والإدماج.

تلي ذلك المرحلة الثانية، وهي استقبال الضحايا والمتضررين في دور الإيواء لتقديم الحماية والمساعدة، بما في ذلك الخدمات الصحية والنفسية والمشورة القانونية والاحتياجات الأساسية. وتشمل هذه المرحلة أيضاً نماذج إضافية للحصول على موافقة الضحية على المضي بالإجراءات وتقييم المخاطر المحيطة بها. وإذا لم تكن بحاجة إلى إيواء، يتولى ضابط الارتباط التنسيق مع الجهات المختصة لتقديم الدعم النفسي أو الطبي أو القانوني اللازم.

تشير دراسة بعنوان "فاعلية الآليات الدولية والوطنية لمكافحة جريمة الاتجار بالبشر" إلى أن هذه الفكرة مكفولة للضحايا بموجب القانون، إذ حددت المادة السابعة منه اعتماد دار واحدة أو أكثر لإيواء المجني عليهم والمتضررين من جرائم الاتجار بالبشر بناءً على تنسيب اللجنة العليا وأعطى صلاحية اعتماد هذه الدار لمجلس الوزراء، إلا أن منظمات المجتمع المدني غالبًا ما كانت تقوم بدور إيواء الضحايا، بحسب الدراسة. 

 

بحسب كلش، فإن اتحاد المرأة عمل على سد فراغ كبير في استضافة ضحايا الاتجار بالبشر في دار الضيافة التابعة له منذ دخول القانون حيّز التنفيذ عام 2009، لكن الاتحاد كان يوفّر خدمته للنساء من الضحايا فقط، في حين كان يتمّ، في كثير من الأحيان، توقيف النساء إدارياً في السجون بسبب إشكالية التكييف. ففي عدد من الحالات، يتمّ تكييف الحالة على أنّها مخالفة عمالية، أو مخالفة لشروط الإقامة بدلاً من تكييفها على أنها حالة اتجار بالبشر. كما لا يوجد مأوى متخصص للأطفال الناجين، وتشير واحدة من الحالات إلى إحالة طفل من ضحايا الاتجار إلى مأوى المتسولين. 

يساهم افتتاح دور الإيواء في تقليل عدد حالات النساء المجنى عليهن اللواتي ممن يتمّ إيداعهن السجون، كما يوفر المأوى سيوفّر فرصة للنساء والرجال للبقاء في الأردن، لحين اتخاذ كل إجراءات التقاضي ضد الجناة وإنصافهم قضائيًا. وإلى جانب دار الحماية التابعة لاتحاد المرأة الأردنية، افتتحت وزارة التنمية الاجتماعية عام 2017 دار كرامة لحماية ضحايا الاتجار بالبشر لتقدم المرافق الطبية والعلاجية والنفسية اللازمة للمتضررين، دون أن تشير التصريحات الرسمية لعدد الحالات التي جرى استقبالها حتى الآن. 

في المرحلة الثالثة التي تتبع الإيواء، يأتي دور جمع الأدلة والتحقيق والمقاضاة وتمكين المجني عليه من الوصول للعدالة وتحويل الملف للقضاء، عبر قيام وحدة مكافحة الاتجار بالبشر بتحويل الملف للنيابة العامة المختصة ومن ثم إلى القضاء المختص بموجب المادة 12 من القانون. تكفل هذه المادة للمجني عليه مجموعة من الحقوق ومنها إتاحة الفرصة له في جميع مراحل الاستدلال والتحقيق والمحاكمة، لبيان وضعه والتعرف عليه وتصنيفه، والتعرف على هويته وجنسيته وعمره لضمان إبعاده عن الجناة.

في هذه المرحلة، يجري تحديد فيما إذا كانت هذه القضية هي حالة اتجار بالبشر أم غير ذلك (حالة عمالية أو استضعاف أو كلاهما) ويؤثر هذا التكييف على جميع مراحل التقاضي اللاحقة، وكذلك اختيار المحكمة المختصة. تقول المستشارة والمحامية المتخصّصة بقضايا الاتّجار بالبشر أسماء عميرة إن تعديل الوصف الجرميّ في بعض الحالات إلى جرائم أقلّ خطورة جراء تحدّيات في إثبات الجريمة الناتجة عن طبيعتها السرّيّة، يعدّ مؤشرًا خطيرًا. 

بلغ عدد أحكام الإدانة بحسب نتائج دراسة "تحليل تشريعات وقضايا الاتّجار بالبشر في الأردنّ لسنة 2020-2023" 52 حكمًا من أصل 172 قضيّة، أما القرارات التي صدر فيها تعديل للوصف الجرميّ للجريمة بلغ عددها 35 قرارًا، حيث تعدّل قرارات الحكم الوصف الجرميّ من جريمة الاتّجار بالبشر بالاستغلال الجنسيّ إلى جرم إدارة بيت بغاء أو ممارسة الدعارة والبغاء، وهنالك قرارات تعدّل الوصف الجرميّ من جريمة الاتّجار بالبشر إلى مخالفات عمّاليّة بسيطة، بسبب خصوصيّة هذه الجريمة عن غيرها من الجرائم ولأنّها عادة ما تمارس في الخفاء يصعب إثباتها. 

تضيف عميرة إن هذه التحديات تؤدي إلى إفلات الجناة من العقوبة، رغم أنّهم عادة ما يملكون سجلًّا جرمي كبيرًا، وقد يكون عليهم قضايا اتّجار بالبشر سابقة، وصدر بهم أيضًا قرار حكم بتعديل الوصف الجرميّ، وهذا يؤدّي إلى تكرارهم لأفعالهم السابقة، لكن بحذر وبطريقة يتمّ استغلال فيها الثغرات القانونيّة. خلال 4 أعوام، استقبلت وحدة مكافحة الاتّجار بالبشر 145 حالة اتّجار/ شبهة اتّجار بالبشر، بينما استقبلت "تمكين" استقبلت 126 حالة اتّجار/شبهة اتّجار بالبشر، وأوردت الدراسة أيضًا الأرقام الواردة على موقع "قسطاس" حيث تبيّن وجود ما يقارب 126 قضيّة أرسلت مباشرة إلى المدّعي العامّ دون المرور بوحدة مكافحة الاتّجار بالبشر.

بناءً على قرار المحكمة، يخيّر المجني عليه ما بين العودة الطوعية حيث يتم توفير المساعدة اللازمة والتمكين من العودة الاختيارية، وذلك من خلال سلسلة إجراءات يتم التنسيق لها بين جميع الجهات ذات العلاقة، أو إعادة الإدماج والتي تهدف إلى تمكين المجني عليه من استئناف الحياة كعضو فعال في المجتمع. تمثّل هذه الخطوات آخر مرحلتين من آلية الإحالة الوطنية اللتين تهدفان لتمكين الضحية من استئناف حياتها كعضو فعال في المجتمع، إلا الواقع العملي مختلف عن ذلك. 

تشير دراسة "إعادة إدماج ضحايا الاتجار بالبشر بين التشريع والتطبيق" إلى أن الناجية الأجنبية من الناحية العملية لا تملك خياراً متاحاً للبقاء في الأردن. ففي جميع الحالات، ما لم تتمكن من الزواج من مواطن أردني، سيكون أمامها خياران فقط: إما المغادرة بمحض إرادتها أو الإعادة إلى بلدها الأصلي مع حظر العودة لمدة خمس سنوات، ويعتمد ذلك على وضعها في بلدها الأم. يواجه المتضررون في هذه المرحلة عوائق أخرى، فإذا كانت الضحية عاملة مهاجرة وترغب البقاء في الأردن، فيجب عليها دفع غرامات تجاوز مدة الإقامة ودفع رسوم تصريح العمل بأثر رجعي، وإذا كان الناجي لم يُنهِ عقد عمله، فيجب عليه الحصول على تنازل وإخلاء طرف من قبل صاحب العمل حتى لو كان متورطًا في القضية. 

في كثير من مراحل تطبيق الآلية الوطنية، يعتبر الافتقار إلى الموارد المالية المستدامة نقطة ضعف واضحة في التطبيق تعيق تحسين خدمات الإيواء أو إعادة إدماج الناجين أو حجز التذاكر لتأمين العودة الطوعية، ما يستدعي وجود مصدر مالي مستدام لتغطية التطبيق السليم والجاد. بعد مرور عامين على إطلاق آلية الإحالة الوطنية للتعامل مع حالات الاتجار بالبشر، والتي كانت بمثابة خطوة للأمام في ملف تمكين الضحايا من تحصيل حقوقهم على رأسها الحق في المحاكمة العادلة، تظهر الممارسة العملية لمراحل الإحالة فجوات مختلفة في التطبيق تحد من نجاعة الآلية ومدى تحقيقها للأهداف التي وضعت من أجلها. 

يبقى الأهم أن كل رقم وإحصائية تمثل حياة حقيقية لشخص انتُهكت حقوقه، وأن نجاح الآلية يقاس بقدرتها على تمكين هؤلاء الأشخاص من استعادة كرامتهم واستئناف حياتهم بأمان. دون التطبيق الجاد والموارد المستدامة، تظل العدالة وعدا معلّقا، والضحايا هم الذين يدفعون الثمن الأول والأكبر.