«شو تأمينك؟ أنا تأميني رضوان السعد»

الرابط المختصر

لأكثر من أربعين عامًا، خدم الدكتور رضوان السعد المرضى، مذ تواجد في العراق قادمًا من هنغاريا حيث درس الطب، ومن ثم متطوعًا في جبهة التحرير العربيّة في جنوب لبنان، وبعدها كصاحب أوّل عيادة في مخيّم إربد، خدمت، بالإضافة إلى أبناء المخيّم، سكّان القرى المجاورة بكشفية رمزية، ومن لم يستطع الحضور للعيادة كانت خدمات السعد تصله للبيت. مع السنين، كانت المقولة الأكثر انتشارًا في المخيم وجواره حول العلاج تترسخ بين الناس: «أنتَ شو تأمينك؟ أنا تأميني رضوان السعد».

بموازاة هذا العمل في الطب، انتمى السعد لحركة القومين العرب، ومن ثم حزب البعث العربي الاشتراكي، وشغل فيه عضو قيادة شعبة قبل أن يجمَّد عضويته فيه نهاية 2015 «لخلافات تنظيمية». كان خلال هذا العمر يتجنب اثنتين؛ تلقي كشفية من المساكين، والظهور على الإعلام وأمام الناس، لأنَّهما «ضد الجوهر الإنسانيّ»، بحسب أحد أصدقائه. رفضت عائلة السعد الحديث للإعلام بشكلٍ عامٍ، ورفضت الحديث لحبر حتّى مع تدخل أحد رفاقهِ؛ بسبب أن الدكتور السعد لم يهتم بالظهور للإعلام في حياته.  

متطوعًا في ليل بغداد وجنوب لبنان

ولد الطبيب رضوان أحمد محمَّد السعد في 15 أيّار سنة 1946 في طبريا،* ودرس الثانوية في إربد، وكان خلال دراسته المدرسية ضمن حركة القوميين العرب، وفقًا لروايات متقاطعة، اتجه بعدها لسوريا للدراسة بحسب رفيقه الطبيب سُلطان عمايرة.

يروي عمايرة أنه في عام 2002 «جابوا واحد على الطب الشرعي على المشرحة [في إربد] لإنه كاين ميّت في بيته، واسمه أسد، ومش متزوج، وأنا شاركت في تشريحه، وحكيت ثاني يوم للدكتور رضوان السعد عنه، فحكالي هذا بعثني أدرس على هنغاريا». لم يكن أسد في الحقيقة إلّا الشاعر أسد محمَّد قاسم (1931-2002) الذي أمضى عمره متنقلًا بين فلسطين، سوريّا، هنغاريا، والأردن، حيث سيُمضى حياته في مدينة إربد في عزلةٍ طويلةٍ انتهت بوفاتهِ سنة 2002. وكان أسد أحد كوادر الحزب الشيوعي الأردنيّ الذي ابتعثَ الدكتور رضوان السعد للدراسة في الخارج، رغم أنَّ السعد ليس عضوًا في الحزب.

أمضى السعد سبع سنواتٍ في هنغاريا يدرس الطبّ في جامعة سِمِلويس في العاصمة بودابست، إذ التحق بالجامعة عام 1968. تُظهر شهادته أنه أمضى السنة الأولى بين عامي 1968 و1969 في دراسة اللغة، وأكمل بعدها دراسة الطبّ وتخرّج من الجامعة في تشرين الثاني 1975. 

توجه السعد إلى بغداد بعد تخرجهِ، وعُيَّن طبيبًا للعاملين في جريدة الثورة العراقيّة، ضمن عيادة داخل مبنى الجريدة. كان الدكتور حسن الطوالبة حينها مديرًا للشؤون السياسيّة في الجريدة: «هو كان دوامه بالعيادة داخل الجريدة، وإحنا العاملين [بالجريدة] بيوتنا متفرقة في كل بغداد، بالليل إحنا كنا بس نقلوا على التلفون عنا الولد [مريض] يجيب شنته وييجي، ويكتبله روشيتة. وببعض المرات يطلع معنا للصيدلية ويشوف الدوا يتأكّد منه. مرّات يكون نايم». لم يكن السعد يمتلك سيارة في ذلك الوقت، لذا كان يعتمد على سائقي الجريدة لإيصاله لمرضاه.

في تلك الأيّام كان السعد يمضي وقته بين الصحفيين وقاعة التحرير. «كان ييجي يقعد عنا بقاعة التحرير وكان يحب يطلع على الأخبار اللي بدها تطلع ثاني يوم، وكان يشوفها قبل تطلع»، يقول الطوالبة. بعدها توجه السعد للتطوّع في جبهة التحرير العربيّة في جنوب لبنان كطبيبٍ، ولم يمكث طويلًا، إذ عاد إلى إربد. 

العيادة الأولى

وفقًا لأكثر من رواية، كانت عيادة السعد أوّل عيادةٍ في مخيّم إربد، من بعد عيادة وكالة الغوث. يقول أحد القياديين السابقين في الجبهة الشعبيّة في المخيم، كامل النجّار، إن أوّل عيادة السعد افتتحت عام 1978 أو 1979. يتذكّر النجار قصّة افتتاح العيادة: «بعثهُ أخوه المحامي مروان السعد على مركز الشباب الاجتماعي (نادي الجليل لاحقًا)، حضر المسا، وتعرّفت عليه، وقال لي إنه بده يفتح عيادة في بيت فكري أبو صدق، وكانت العيادة في شارع فرعي، وكانت أول عيادة في المخيّم». كان في المخيّم أيّامها عيادة وكالة الغوث التي ينتهي دوامها الساعة الثانية ظهرًا، وعيادة الدكتور رضوان السعد التي كانت مكوّنة من غرفة واحدة فقط، فيها «جهاز سكري، جهاز ضغط، ميزان [حرارة]، وما كان أولها في سرير بعدين جاب سرير»، يقول النجّار. 

هكذا صارت اللقاءات مع بين السعد والنجار شبه يوميّة، يقول النجار «بخلص شغل بمركز الشباب الاجتماعي وبروح على العيادة». أمضى السعد سنة واحدة في هذه العيادة، بعدها انتقل إلى العيادة التي سيبقى فيها حتّى وفاته والتي ستكون سببًا في تسمية الشارع التي تقع فيه بشارع العيادات.

أواخر الثمانينيات، توسعت العيادة الجديدة لتشمل غرفة ثانية. وحول الكشفيّة يقول النجار، «أوّل ما كانت ربع دينار. صارت نص دينار أواخر السبعينيات أو أوائل الثمانينات». في بدايات افتتاح العيادة، كان السعد يتجاوب مع الحالات الطارئة في المخيّم بعد دوام العيادة، وفي هذه الحالات لم يكن يأخذ كشفيته من المريض.

 

ك

سكن السعد في الحي الجنوبيّ من مدينة إربد بالقرب من ثانوية بنات إربد. مع بداية الثمانينيات، اشترى السعد سيارة فوكس فاجن زرقاء، يتذكرها كل من عرفه. تحددت أوقات دوام العيادة بين الساعة 8:30 صباحًا حتى الواحدة ظهرًا، ثم استراحة الغداء ويعود للعمل حتى الخامسة. في تلك الفترة بين عامي 1982 و1987، كان رضوان أبو تبّانة طالبًا في جامعة اليرموك. يقول أبو تبّانة: «التقيت أنا وإياه عند كامل النجّار، كان يزوره دايمًا (..) كان يحب الشباب المتفوقين دراسيًا، وكان يشجع الشباب يهتموا بدراستهم. كنا نتناقش خاصة لما جدتي أو أبوي يمرض وييجي يزورهم، كان يصرّ وهو مروحّ على الغدا يوصلني [من المخيّم] على الجامعة».

بين عامي 1984 و1988، كان أبو تبّانة الذي تخرّج من جامعة اليرموك تخصص هندسة كهربائيّة رئيسًا للجنة الفتيان الأيتام في نادي الجليل، وكان الدكتور السعد أحد داعمي لجنة الأيتام، لكنه كان يصر على أن تظل تبرعاته باسم «فاعل خير».

طوابير المرضى والعمل السياسي

مع رفع الأحكام العرفية وعودة الحياة السياسية بعد انقطاع طويل، تأسس حزب البعث العربي الاشتراكي الأردنيّ عام 1993، والتحق السعد به مع رفاقهِ، وحافظ على التعامل مع مرضاه رغم ارتفاع أعدادهم. 

يقول رفيقه في الحزب الطبيب العمايرة: «في بداية الألفينيّات، صارت الكشفيّة دينار واحد، رفعها بالألفين من كثر حكي الناس (..) مرات تفوت وحدة معها ولدين ولا ثلاثة، يوخذ كشفية وحدة، ومرّات ما يوخذ».

في هذه الفترة انتشرت مقولة في المخيم والقرى المجاورة: «شو تأمينك؟ أنا تأميني رضوان السعد»، إذ توسعت رقعة المخدومين بهذا التأمين الصحيّ الذي لم يكن يقتصر على الكشفيّة إنما كذلك على توزيع الأدوية من حقيبته التي رافقته طوال هذه السنين.

انتخب السعد عضو قيادة شعبة في حزب البعث العربي الإشتراكي الأردني في إربد. وعام 2003 بعد احتلال بغداد، أُغلق مقرّ حزب البعث العربي الاشتراكي الأردني مقرّه. وخلال فترة الإغلاق التي دامت أربع أو خمس سنين «كان [السعد] يتبرع إنه اللقاءات تكون ببيته، وصار مؤتمر في بيته في تلك الفترة، وظل حاضن لكثير من الاجتماعات الحزبيّة»، يقول رامي حدّاد، الذي كان السعد مسؤوله الحزبيّ حينها.

«كان يدخل بهدوء متحسش إنه أجا حدا وقعد»، يقول حدّاد. بعد ذلك تطودت العلاقة أكثر بينهما، وصارا يترافقان أو يتحدثان بشكل يومي تقريبًا. «لم يكن يحب الظهور بسبب أنه هاي رسالة الله خلقنا لها، والظهور يعني ضد الجوهر الإنساني». يقول حدّاد إنه خلال الـ19 سنة الماضية على الأقل، لم يظهر السعد في وسيلة إعلام واحدة، وكان يتجنّب حتى التصوير. 

جمعت السعد لقاءات مع الكاتب والشاعر هشام عودة في عمّان ضمن اجتماعات حزبيّة. يقول عودة «كان ينسى أنه طبيب، هو مثقف مهم، ودائم الحديث عن الشأن الثقافيّ. هو انشهر بالعيادة [لكن] هو عروبيّ ومن عائلة عروبيّة». في عام 2015، جمّد السعد عضويّته في حزب البعث العربي الاشتراكي الأردني بسبب«خلافات تنظيمية» كما يقول رفيقه المحامي فتحي الدرادكة.

العمل بعد المرض

هكذا لم تتغيّر العيادة، بقيت «غرفة صغيرة، وهو مقطّعها بباب صغير»، للكشف على المرضى، يقول الطبيب العمايرة. في آخر السنوات صارت عطلته يومي الجمعة والثلاثاء للراحة. «ما كان يقدر يكمل دوامه، كان يظل على وقفة وحدة، ما عادش صحته تسمحله». في هذه الفترة بسبب مرضه صار دوامه حتّى الساعة الواحدة ظهرًا أو حتّى يُنهي علاج 35 مريضًا فقط، إذ عاني الدكتور السعد من مشاكل في القلب.

افتتح رفيق السعد، الطبيب العمايرة، عيادة جوار عيادة السعد قبل عدة أشهر، وكان يرى طابور المرضى والمنتظرين داخل العيادة وخارجها «والله ينتظروا برا بالشارع، كنا نقلوا مشان الله يا رضوان وديهم [إلى عيادات أخرى]، ييجوا ومثل ما بدك بنعطيهم، قال والله برظوش برظوش». 

دخل صديق السعد كامل النجّار مستشفى بسمة بداية سنة 2019 لمدة عشرة أيّام، وكان السعد «تعبان». يروي النجّار تفاصيل أحد تلك الأيّام التي قضاها في المستشفى: «يوم دخل علي الدكتور أحمد رضوان السعد ابن الدكتور رضوان ومعاه طاقم تمريض، كاين يسأل: وين كامل النجّار؟ حكيتله تفضّل، قلّي: أبوي دوشني بيك. حتّى وهو مريض بعث ابنه يطمّن عليّ».

قرر السعد أخيرًا إجراء عملية قلب مفتوح بالمستشفى الاستشاري في عمّان، أجريت في التاسع من أيلول. بدت العملية ناجحة في البداية، «بس صار مضاعفات. كان من المفروض الخميس [19 أيلول] يروّح»، يقول حدّاد، لكن السعد توفي في اليوم الذي كان مقرّرا له الخروج فيه.

ظهر اليوم التالي لوفاة الطبيب السعد، وكان يوم جمعة، كان القسم الشرقي من مدينة إربد قد أغلق تقريبًا. أمَّ الآلاف مسجد أبو هلال للمشاركة في جنازة السعد، وخصص خطيب الجمعة خطبته للفقيد. امتلأ المسجد والساحات الجانبيّة بالمصلين، وأُغلق الشارع الواصل بين مدينة إربد وشرقها، وحضر رفاقه من عمّان والكرك وإربد وقراها، مرضى ومساكين، ليُحمل النعش إلى مقبرة المدينة الصناعيّة. 

م

وسط مخيّم إربد كان شارع «العيادات» خاليًا تقريبًا من المارة، وفوق باب غرفةٍ تقع على مستوى الشارع عُلقت لافتة بخط اليد «الدكتور رضوان السعد» ستكون شاهدةً على أوّل عيادةٍ شُيّدت في المخيّم حين جاء السعد بعد خدمته متطوعًا ليقطّع أزقة المخيم بين الطين في شتاءات طويلة، يحمل حقيبة فيها أدواته والعلاجات لتفقد الناس في الليل. 

رابط المادة في موقع حبر دوت كوم