هذه هي سيناريوهات الضربة الإسرائيلية المرتقبة ضد إيران حسب ستراتيجيكس
ينشغل العالم اليوم في الرد الإسرائيلي المرتقب على الهجمات الإيرانية الأخيرة، والتي يُخشى أن تكون غير متكافئة وتأتي بتداعيات غير متوقعة، خاصة أن إسرائيل وضعت هذا الرد في إطار الأهداف الإستراتيجية.
يترقب العالم ضربة إسرائيلية قريبة ضد إيران، في إطار ردها على الهجمات الإيرانية الصاروخية مطلع أكتوبر، بأكثر من 180 صاروخ باليستي من نوع "فاتح"، استهدف مقرات للموساد وقواعد ومواقع عسكرية، وألحقت أضراراً في "قاعدة نيفاتيم" الجوية، اعترف بها الجيش الإسرائيلي وكشفت عنها صور القمر الاصطناعي "بلانيت بلاس". وفيما تُعلن إسرائيل أن ردها سيكون "قويا"، فإن المنطقة تقف على أعتاب تصعيد واسع، مع مخاوف من أن تأتي الضربات العسكرية الإسرائيلية "غير متوقعة" و "لا متكافئة"، إذ تعددت الخيارات المطروحة على طاولة ذلك الرد، وتكاد تنحصر في سيناريوهين عامين: الأول أن تتركز الضربات في إطار الأهداف الإسرائيلية من الحرب، وخاصة تجاه ما يرتبط بـ "محور المقاومة" وركائز وحدة الساحات، والثاني بأن تستغل إسرائيل اللحظة لتوجيه ضربات حاسمة ضد المشاريع الإيرانية الكُبرى، لا سيما البرنامج النووي، أو القيادة السياسية أو العسكرية.
السيناريو الأول: الضربات المُتسقة مع أهداف الحرب الحالية
يعتبر تقويض استراتيجية "وحدة الساحات" وتفكيك "محور المقاومة" وإضعاف أطرافه، هدفاً إسرائيلياً واضحاً في الحرب الحالية، وقد انتقل ذلك الهدف من قطاع غزة نحو لبنان، ويُرجح أن يتوسع ليشمل مكونات ذلك المحور في سوريا واليمن والعراق. وتحقيق هذا الهدف المُعقد، يتطلب استهداف ما يتصل بتلك الأطراف في إيران، من أجل تقويض قدرة طهران على مُمارسة الحرب بالوكالة، وتحجيم دورها إلى داخل حدودها، وفي إطار هذا السيناريو فإن إسرائيل لا تسعى لفصل الوكيل عن المركز فحسب، بل ضرب المصدر الذي يمد الوكلاء بالقادة والسلاح والعتاد، وفي ذلك تنحصر احتمالات الضربات المُرتقبة في ثلاثة مواقع في الداخل الإيراني ترتبط بمنظومة القيادة المركزية للوكلاء، أو منظومة الصناعة العسكرية أو البحرية الإيرانية.
في حالة القيادة المركزية؛ فمن المُرجح أن تتركز الضربات على قيادة ووحدات ومواقع فيلق القدس، وذلك يهدف لاستكمال الضربات ضد الفيلق في كل من سوريا ولبنان منذ اندلاع الحرب، إذ قتل في سوريا 27 قائداً في الحرس الثوري من بينهم 14 قائد رفيع المستوى خلال السنة الأولى من الحرب، من بينهم قادة فيلق القدس للعمليات والفضاء والاتصالات والإمداد والاستخبارات، وفي الواقع يُعتبر توجيه ضربات إلى سلسلة القيادة والمواقع التابعة للفيلق في إيران وخارجها، هدفاً مُكملاً لأهدافها المعلنة من الحرب، إذ يضعف ذلك قُدرة إيران على الاستمرار في دعم وكلائها وممارسة الحرب بالوكالة من جهة، ويُضعف قدرة وكلائها على إعادة تنظيم صفوفهم، لا سيما أن الفيلق يحاول حالياً القيام بدور في تغطية الفراغ القيادي في حزب الله بقادة منه. وفي حين يحظى هيكل القيادة في فيلق القدس بالاستقلالية عن الحرس الثوري الإيراني، فذلك يعني أن الضربة الإسرائيلية وُجهت ضد الأصول العسكرية الإيرانية الخارجية وليست الداخلية، ومن جهة أخرى فإن السرية التي تُحيط بالفيلق، سواء على مستوى وحداته أو مقراته وقياداته المُتواجدة في إيران، قد تكون مكشوفة لإسرائيل بعد سلسلة من الاختراقات التي وجهتها لقادة الفيلق في سوريا ولبنان، واتساع نطاق ذلك الاختراق إلى الداخل الإيراني بعد اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية في طهران في 31 يوليو 2024.
أما على مُستوى الإمداد؛ فمن المحتمل أن تتركز الضربات على مؤسسات الصناعة العسكرية والدفاعية الإيرانية، والتي تلعب دوراً هاماً في تزويد وكلاء إيران بالمسيرات والصواريخ الباليستية، وتعتبر بيد وكلائها مكمناً للقوة ومصدراً للخطر بالنسبة لإسرائيل، خاصة منها الوسائل القتالية التي أثبتت قُدرتها على تخطي الرادارات واختراق منظومات الدفاع الجوي، ومن أمثلتها؛ المسيرة الحوثية التي تحمل اسم "يافا"، وانفجرت في تل أبيب في يوليو 2024، وفي الصاروخ الباليستي الذي فشلت منظومات الدفاع الجوي باعتراضه وسقط على مقربة من مطار بن غوريون في سبتمبر، والمسيرة التي اطلقتها الفصائل العراقية وقتلت جنديين إسرائيليين في أكتوبر، ووصولاً إلى "الهجوم الأعنف" الذي نفذه حزب الله بمسيرة على معسكر للواء غولاني في منطقة "بنيامينا"، ما أسفر عن مقتل 4 جنود إسرائيليين في 14 أكتوبر 2024. وفي الواقع؛ فإن هذا الخيار يقع ضمن الأهداف العسكرية، وبما يتناسب مع مستوى الضربة الإيرانية، ويحد بشكل كبير من قدرات إيران على تزويد وكلائها بهذه الوسائل القتالية، خاصة وأن إسرائيل تقر في الواقع بالتعقيدات التي تُحيط باعتراض المسيرات مُقارنة بالصواريخ، فغالباً ما تتولى المقاتلات الحربية مهام إسقاطها، وقد كانت صناعة المسيرات الإيرانية هدفاً للهجمات السرية التي تتهم طهران بها إسرائيل، إذ يُرجح أن الهجوم الذي استهدف إحدى مجمعات الصناعات الدفاعية في مدينة أصفهان في يناير 2023، قد ضرب منشأة لصناعة الطائرات المسيرة.
وأخيراً؛ خيار استهداف البحرية الإيرانية؛ التي تؤدي دوراً رئيساً في أنشطة طهران الإقليمية، وتعتبر جزءاً من طرق تزويد وكلائها بالسلاح، فبعد أن عقدت الضربات الجوية الإسرائيلية ضد مطاري حمص ودمشق في الشهر الأول من الحرب قُدرة طهران على تعزيز ترسانتها في سوريا جواً لجأت إلى شحن السلاح عبر البحر باستخدام ميناء بندر عباس وصولاً إلى ميناء اللاذقية وفقاً لتحقيق نشرته صحيفة تليغراف في مارس 2024. ولكن يعتبر استهداف البحرية الإيرانية، موجهاً في الأساس إلى تقويض قدرات الحوثيين، الذين استطاعوا منذ بداية الحرب تجنب الأضرار الكبيرة مُقارنة بحركة حماس وحزب الله، وأظهروا فاعلية في عملياتهم البحرية والجوية، والتي على أثرها هددهم الجيش الإسرائيلي بهجوم واسع قادم. إذ يعتبر النشاط البحري الإيراني جزءاً من قوتهم، من حيث الدعم التسليحي والاستخباراتي والمعلوماتي الذي تزودهم به طهران، ما يعني أن إضعاف البحرية الإيرانية يساهم في تقويض قدرات الحوثيين العملياتية والمعلوماتية، ويعقد من عمليات تزويدهم بالصواريخ والطائرات المُسيرة.
السيناريو الثاني: الضربات الحاسمة ضد الأهداف الحيوية في إيران
أعادت إسرائيل تعريف أهدافها من الحرب بعد سلسلة الضربات لتي طالت قادة ومقدرات حزب الله في لبنان، إذ أطلقت على عملية اغتيال الأمين العام للحزب حسن نصر الله اسم "النظام الجديد"، فيما ذكر رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو أن إسرائيل تسعى لإحداث تغيير استراتيجي على مستوى الشرق الأوسط، وقد اتسقت الخيارات التي تداولها المسؤولون الإسرائيليون في الضربة المُرتقبة لإيران وهذا الهدف، من قبيل استهداف المناطق والمنشآت الحيوية والمقومات الاقتصادية والمنشآت النووية ومراكز ومقرات القيادة السياسية والعسكرية.
فمن جهة التهديد بضرب المنشآت النووية الإيرانية، وباعتبارها هدفاً لإسرائيل منذ عقود، التي عارضت الاتفاقية النووية عام 2015، ولجأت إلى العمليات الاستخباراتية والسرية لعرقلة تطوره، وعُقب الهجوم الإيراني ربط عدد من المسؤولين الإسرائيليين والوزراء في الحكومة الاسرائيلية ما بين الرد وضرورة أن يستهدف المنشآت النووية، سواء كان استهدافاً مُدمراً بالصواريخ والطائرات الحربية أو عبر هجوم سيبراني واسع النطاق. وفي الواقع؛ لم تكن المنشآت النووية بعيدة عن سياق الحرب الحالية وما قبلها، إذ تتهم إسرائيل بهجمات عدة استهدفت عُلماء ومنشآت نووية إيرانية، من بينها اغتيال العالم النووي محسن فخري زادة في نوفمبر 2020، والهجوم على منشأة نطنز النووية والذي ألحق فيها أضراراً كبيرة في أبريل 2021. وحديثاً أعلنت إسرائيل في أوقات عدة أنها دافعت عن مفاعل ديمونا، سواء أثناء الهجوم الإيراني في منتصف أبريل، الذي كشفت صحيفة معاريف عن صور لأقمار صناعية، تُظهر إصابة في أحد مبانيه، أو في أواخر أبريل عندما سقوط صاروخ أطلق من سوريا على مقربة من المفاعل. لكن الهجوم على المنشآت النووية الإيرانية يتطلب ضوءاً أخضراً من الولايات المتحدة، بل ومُشاركة مُباشرة لها في الهجمات، لا سيما بطائراتها الخاصة بالتزويد في الوقود جوا، والقنابل الخارقة للتحصينات، وضمان الحماية القُصوى لمفاعل ديمونا من رد إيراني انتقامي، ما دون ذلك؛ فإن الضربة ستكون غير متناسبة، وتتعدى تداعياتها النتائج المتحصلة عنها، وفي الواقع أكد الرئيس الأمريكي جو بايدن في 4 أكتوبر علانية أنه "لن يدعم أي ضربة إسرائيلية تستهدف المواقع النووية الإيرانية". مع ذلك؛ من المحتمل مهاجمة المواقع المرتبطة بالمفاعلات النووية، لا سيما مراكز الأبحاث النووية، أو الدفاعات الجوية ومواقع الحماية على غرار ضربة الرد على هجمات أبريل، عندما ضربت إسرائيل بطارية دفاع جوي كانت ضمن نظام الدفاع الذي يحمي منشأة نطنز.
أما فيما يتعلق بالمقدرات الاقتصادية والموارد الحيوية الإيرانية؛ وتحديداً في تلويح إسرائيل باستهداف مصافي النفط في إيران، فإن هكذا ضربة تلقى مُعارضة أمريكية واسعة، خاصة من جهة "الصدمة البترولية" التي ستنتج عنها، والاضطراب اللاحق لها في الأسواق والأسعار، والتي قد تمتد انعكاساتها على السوق الأمريكي، ولذلك تداعيات محلية كبيرة قُبيل الانتخابات الأمريكية الرئاسية، التي بدء فيها التصويت المبكر منذ 20 سبتمبر، من جهة أخرى؛ يُمكن لاستهداف مصافي النفط أن يُدخل فاعلين جدد إلى خط الأزمة، في مقدمتهم الصين التي تعتمد بجزء من واردتها للطاقة على إيران، وكذلك منظمة أوبك وأوبك بلس، التي يُمكن أن ترفع استجابتها للحادثة من أسعار النفط بشكل كبير، وهو ما يضر المصالح الأمريكية والأوروبية، ويصب في صالح المصالح الروسية، بزيادة إيراداتها من مبيعات النفط في ظل العقوبات الغربية المفروضة عليها.
وبذلك يبقى خيار توجيه ضربة ضد مراكز القيادة السياسية والعسكرية؛ وتحديداً ضد مؤسسة المرشد العام والحرس الثوري والاستخبارات، وما يجعل هذا الخيار حاضراً، أن إيران أعلنت بعد الهجمات الإسرائيلية ضد قادة حزب الله، عن نقل المُرشد الأعلى إلى مكان آمن. وفي الواقع فإن سمة الحرب الرئيسة هي المُفاجئة، بدءاً من هجمات أكتوبر نفسها، وصولاً إلى الانهيار السريع لهيكل قيادة حزب الله، وفي تكرار ذلك داخل إيران سواء على مستوى الأهداف العسكرية أو السياسية، فإن الضربات ستأخذ طابعاً تسلسلياً، من حيث امتداداها رُبما على مدى أيام، وهذا الخيار الحاسم، سيضع إيران وسط فجوة خطيرة، لا تُقارن بتلك الناتجة عن مقتل قاسم سليماني عام 2020، والذي لا تزال آثار غيابه واضحة على مستوى المُحور، وكذلك في الوفاة المفاجئة للرئيس الراحل إبراهيم رئيسي في حادثة سقوط الطائرة الرئاسية، ومن شأن إحداث فراغ على مُستوى المرشد العام أن يُطلق صراعاً على السلطة خاصة في ضوء عدم حسم مسألة الخلافة حتى اللحظة، لكن هذا الخيار يستدعي من إيران إعلان الحرب في وقت لا يُرجح أن إسرائيل تسعى فيه للانشغال بحرب مع إيران إلى جانب غزة ولبنان.
وأخيراً؛ يقع كلا السيناريوهين وما ينطوي ضمنهما من خيارات في سياق الحسم الذي تتبناه إسرائيل مؤخراً، لكن الأول يتعلق بحسم السياسة الخارجية الإيرانية، والثاني يرتبط بالنظام السياسي نفسه، وبطبيعة الحال أعلنت إسرائيل عن اتخاذها القرار بشأن أهداف ومواقع هجماتها، بالتزامن مع إعلان البنتاغون نشر منظومة ثاد الدفاعية مع جنود أمريكيين على الأرض للمرة الأولى لتشغيل تلك المنظومة في 14 أكتوبر 2024، ومع اقتراب حاملة الطائرات الأمريكية "يو أس أس هاري ترومان" من الوصول إلى شواطئ شرق المتوسط، فذلك يُشير أن الهجمات المرتقبة ستكون "قوية" وتستدعي رداً إيرانياً. ومن المُرجح أن يأتي الهجوم الإسرائيلي مُركباً ومُعقداً، وباستخدام مُتعدد للوسائل القتالية والهجمات الإلكترونية والعمليات الاستخباراتية، وبشكل يُصعب على إيران دعم وكلائها من جهة، ويُهدد النظام السياسي نفسه، ويُحدث أضراراً استراتيجية في قطاعات عدة وبشكل يستدعي من طهران وقتاً لمعالجتها وتفادي تداعياتها، ويعقد عليها في الوقت نفسه الرد على الضربة، ومن المُرجح ألا تقع جميع تلك الهجمات في وقت واحد، بل تأخذ طابعاً تسلسلياً ومتدرجاً، لإشغال إيران من جهة، وكشف ثغراتها من جهة أخرى، وبما يمنح إسرائيل مسألة تقدير تصعيد ضرباتها من عدمه.