ري المحاصيل الزراعية بالمياه العادمة... كارثه بيئية في الأغوار الوسطى تنتظر الحلول

نابلس ـ همسه التايه ـ مضمون جديد

لم يكترث المزارع "أبو الراجح " من قرية النصارية شرق مدينة نابلس بطبيعة المياه التي يقوم بتوجيهها لأرضه الزراعية ومدى صلاحيتها لري محصول الخيار المزروع على مساحة تقدر ب500 دونما، قائلا" من وين اجيب مي نقية هاد اللي موجود، وهاي المي اللي بتوصلنا" .

وبقلق بدى واضحا على تعابير وجهه جراء تواجدي وزميلي الصحافي ، لم يلبث أبو الراجح أن انهمك بمساعدة نجله، بخلط السماد الزراعي في "الدلو"، الذي قام بتعبئته من "بربيش " تم تمديده من مياه المجاري الراكدة في برك التجميع المقامة من قبل المزارعين.

ومن خلال هذه البرك، يقوم المزارعون في قرية النصارية بري أكثر من 1000 دونم من الأراضي الزراعية بمياه الصرف الصحي من اجمالي المساحة التي تقدر بحوالي 15.000دونم ، حسب تأكيدات المجلس القروي في النصارية.

وأثناء عبوري وزميلي من الطريق الرئيسية المحاذية للأراضي الزراعية غرب النصارية، شاهدنا بأم أعيننا برك تجميع مياه المجاري غير المعالجة ، والتي تم ربطها بشبكة انابيب ، وتوصيلها باتجاه الأراضي الزراعية .

وهذه البرك تم تجميعها من مياه الصرف الصحي غير المعالجة ـ للمنازل والمصانع ـ القادمة من مدينة نابلس والتي تسير باتجاه وادي الباذان، وتختلط بمياه الينابيع العذبة مرورا بوادي الفارعة، حتى تصل قرى العقربانية والنصارية .

ورغم أن تواجدنا في المكان لم يتعد الدقائق المعدودة، الا أننا استطعنا أن نلمس التلوث الخطير الذي تعاني منه المنطقة جراء انتشار روائح كريهة للغاية، لا يمكن لانسان يعاني من ضيق التنفس أن يحتملها ، ناهيك عن مجرى "القناه التي تمر به مياه المجاري والذي أصبح ملاذا ومرتعا للقاذورات والبعوض.

وفي هذا الصدد، حمل مسعد بلاونة رئيس مجلس قروي النصارية مسؤولية تلوث المياه لبلدية نابلس، مطالبا اياها بضرورة العمل وبشكل فوري على حل المشكلة ، مشيرا الى أن منطقة النصارية أصبحت منكوبة بيئيا ".

ظاهرة خطيرة ومقلقة

ولم تكن قرية النصارية الوحيدة التي تروي المحاصيل الزراعية الحقلية المكشوفة بمياه الصرف الصحي، بل أصبحت هذه الظاهرة المقلقة والخطيرة منتشرة في مناطق الأغوار الوسطى بشكل عام والتي تضم قرى العقربانية وبيت حسن وعين شبلي.

وأحد الأسباب التي دفعت المزارعين الى الري بمياه الصرف الصحي، شح المياه في منطقة الاغوار رغم وجودها على الحوض المائي الشرقي لنهر الاردن الا أن الاحتلال الاسرائيلي يمنع التنقيب عن المياه وحفر الآبار وتأهيلها في تلك المناطق ".

ورغم وجود 11 بئر ارتوازي في قرية النصارية يتم الاستفادة من 7 منها فقط، جراء هدم الاحتلال لـلآبار الاربعة المتبقيات ، الا أن عملية ضخ المياه شحيحة تقدر بقوة 60 كوب/ الساعة ولا تكفي القرية ، هذا بالاضافة الى التكلفة المرتفعة لثمن صهاريج المياه الخاصة .

منطقة منكوبة

فقرية النصارية التي تتميز بامتلاكها لأراضي زراعية خصبة وتنوع فريد لبساطها النباتي ووفرة مراعيها الحيوانية، أصبحت تعاني من تلوث خطير يتهدد صحة الانسان وقطعان المواشي والغطاء النباتي.

وتعليقا على ذلك، عبر ابراهيم رويس من مجلس قروي النصارية عن استيائه من المشكلة الآخذة بالتفاقم بالقول" أن قرية النصارية أصبحت منطقة منكوبة صحيا ، حيث زادت الأمراض السرطانية والأمراض الجرثومية بالاضافة الى تفشي الاصابة بمرض اللشمانيا ".

وأشار الى أن والده الحاج مسلم قد توفي جراء اصابته بمرض السرطان، دون تأكيده ما اذا كان لمياه الصرف الصحي علاقة أم لا بموت والده أو زيادة حالات السرطان في القرية.

ووصف رويس الوضع البيئي في النصارية بالكارثي، جراء تلوث المياه الجوفية وانتشار الحشرات والقوارض والبعوض وتلويث الأرض الزراعية والتربة وتحولها الى اراضي غير صالحة للزراعة بعد أن زادت نسبة ملوحة تربتها واستوطنتها الأمراض مثل " لماتودا، فيوزاريوم، بيثيوم.

وقال:" أن المنطقة التي كانت تعتبر سلة غذاء فلسطين، تقلصت فيها مساحات الأراضي الزراعية بالاضافة الى أن الأرض لم تعد تنتج حاليا القرنبيط والخس والسبانخ والبازيلاء والملفوف والباذنجان وان أنتجت فمحاصيل زراعية بجودة اقل ".

وحول تأثير المياه العادمة غير المعالجة على الثروة الحيوانية قال" أن 10.000 راس غنم أصبحت مهددة بالأمراض التي تتراكم في لحومها اضافة الى الاضرار بمواليدها ونفوقها ناهيك عن انخفاض جودة الألبان.

وطالب ابراهيم رويس بلدية نابلس بضرورة الاسراع ببناء محطة تنقية ، مشيرا الى أنه في حال تأخرت في اقامة المحطة فعليها القيام بتعويض المزارعين عن فترة تأخرها، كونها طرف في المشكلة وهي صاحبة الشأن".

كما ودعا المفاوض الفلسطيني الى ضرورة الضغط على الجانب الاسرائيلي من أجل السماح بحفر الآبار وتأهيلها لأن استخدامها قد يحل المشكلة.

الحل مرهون بالتمويل

من جهته ، قال عدلي يعيش رئيس بلدية نابلس" أن المشكلة ليست بالجديدة على الاطلاق حيث تعاني المنطقة الشرقية والغربية من نابلس من مشكلة تلوث المياه ، واستطاعت البلدية اقامة مشروع للتنقية غرب المدينة وتم حل المشكلة بشكل جذري".

وفيما يتعلق بالمنطقة الشرقية من نابلس، وامكانية ايجاد حلول لمشكلة تلوث المياه ،وعد يعيش " بأنه مع بداية العام القادم سيكون هنالك قرار للعمل على محطة تنقية وسيتم تنفيذ المشروع من قبل شركة محلية وأخرى ألمانية".

وأضاف " نحن في بلدية نابلس متابعين للمشكلة ، وقمنا بطرح عطاء لعمل دراسات وتصاميم بتكلفة تقدر بحوالي 440 ألف يورو وذلك من أجل ايجاد محطة تنقية شرقية".

وعن أسباب عدم اقامة أي مشاريع تنقية وتأخير تنفيذها ، أوضح يعيش" أن مشروع التنقية كبير جدا ويحتاج لتمويل ضخم ".

قرار بالمنع والعقوبة مغيبة

من جهته وصف المهندس محمد فطاير مدير زراعة نابلس الوضع في قريتي النصارية والعقربانية بالخطير والحساس للغاية، مؤكدا قيام لجنة السلامة العامة على مستوى محافظة نابلس بمتابعة الموضوع.

وقال" أن مديرية زراعة نابلس قامت بإصدار قرار يمنع الري بمياه الصرف الصحي في مناطق الأغوار الوسطى بشكل كامل". مؤكدا عدم وجود أي اجراء قانوني يتخذ بحق أي مزارع يخالف هذا القرار ولا بحق المحاصيل الزراعية .

وقال " رفعنا تقاريرنا وتوصياتنا للجهات المعنية ولمحافظ نابلس ولغاية هذه اللحظة لا يوجد قرار بالموضوع".

وأضاف " نحتاج لسلطة تنفيذية أقوى من وزارة الزراعة كون المشكلة أكبر من الوزارة ذاتها، دون موافقته على الخوض في التفاصيل والأسباب حول ذلك.

تدمير مقصود

من جهته ، حمل أمجد جبر مدير سلطة جودة البيئة في نابلس المسؤولية الكاملة للمزارع الفلسطيني في منطقة الأغوار، قائلا" تم تنفيذ مشروع اقامة قنوات لفصل المياه العادمة غير المعالجة عن مياه الينابيع بتكلفة تقدر بحوالي 2 مليون دولار ، الا أن المزارعين قاموا بتدمير هذه القنوات وخلط المياه للاستفادة من كمية وحصة أكبر من المياه بالاضافة الى الاستفادة من المواد العضوية الموجودة فيها ".

وأكد جبر على ما رأيناه بأم أعيننا ، وهو قيام المزارعين بضخ مياه الصرف الصحي غير المعالجة في برك وتخزينها في آبار من أجل الاستفادة منها في فصل الصيف .

وعن جمالية المنطقة التي تحولت لمكره صحية قال: "أن ري المحاصيل الزراعية بمياه الصرف الصحي ذات تأثيرات سلبية خطيرة على الانسان والمواشي والبيئة بشكل عام حيث تنتشر الرائحة الكريهة في المنطقة ناهيك عن انها أصبحت مرتعا للحشرات والقوارض والخنازير البرية اضافة الى تشويه المنظر الجمالي للاغوار وانتشار الأوبئة والامراض ".

وتأكيدا على ما تحدث به جبر ، كشف مؤيد بدران رئيس قسم البيئة في صحة نابلس عن تجاوزات يقوم بها المزارعين في مناطق الأغوار مثل تدمير وكسر القنوات الاسمنتية بهدف خلط مياه الينابيع النقية مع مياه الصرف الصحي غير المعالجة للاستفادة من كمية أكبر من المياه اضافة الى توفير المواد العضوية الناتجة عن هذه المياه .

وردا على ذلك قال رئيس المجلس القروي أن لا علاقة للمزارع بما يحدث ، وأن الحق على البلدية على حد تعبيره .

في حين قال ابراهيم رويس من المجلس القروي أن هذا الاتهام بعيد عن الصواب " على حد ادعائه.

وقال" أوعزنا للمجالس المحلية بضرورة اعادة ترميم القنوات وذلك حفاظا على الصحة البيئية في المنطقة ذاتها "مشيرا الى أن مياه الصرف الصحي لم تؤثر فقط على السلة الغذائية لمنطقة الأغوار فقط وانما تاثيراتها السلبية الخطيرة برزت في تسربها للمياه الجوفية و تلويثها التربية وانتقال الأمراض للمزروعات اضافة الى المخاطر الصحية التي تؤثر على حياة الانسان بشكل خاص وعلى البيئة بشكل عام .

وقال " أن ري المحاصيل الزراعية بمياه الصرف الصحي امر مقلق للغاية ، وبدورنا نقوم وبشكل دوري بأخذ عينات من المياه لفحصها والتأكد من صلاحيتها للاطمئنان على سلامة المواطنين .
أمراض وإصابات

من جهتها، قالت د. أميرة الهندي مديرة الشؤون الصحية في صحة نابلس" أن الأمراض التي يسببها التلوث بالمياه العادمة على الانسان تحوي بكتيريا وفيروسات وطفيليات تظهر انعكاساتها على أرض الواقع من خلال الاصابة بالأمراض ".

وكشفت د. الهندي عن الإصابات والأمراض التي تم تسجيلها خلال 2011حيث أن الاصابة بالتهابات المعدة والأمعاء وتقيؤ الأطفال والاسهال لفئات عمرية مختلفة لم تسجل شيء ملحوظ ، لافتة الى أن المرضى أحيانا يتوجهون الى عيادات صحية خاصة دون التوجه لمديرية الصحة .

وأضافت أنه قد تم تسجيل 16% من الحالات مصابة بالتهاب الكبد الوبائي"أ" بقريتي النصارية والعقربانية مشيرة الى أن هذا المرض ينتقل من شخص لأخر عن طريق البراز نييجة تلوث الماء أو الطعام.

وبينت أنه قد تم تسجيل أكثر من 50% من الحالات التي أصيبت بمرض اللشمانيا ، والذي ينتقل عن طريق البعوض والقوارض والوبر الصخري ، مشيرة إلى أن أعلى الحالات سجلت في مناطق الباذان والنصارية والعقربانية .اضافة الى انتشار الأمراض الجلدية وتفشي الجرب والقمل .

ومما لا شك فيه ، أن ظاهرة ري المحاصيل الزراعية المكشوفة بمياه الصرف الصحي غير المعالجة من الظواهر الحساسة والخطيرة جدا، والتي تستدعي الوقوف على حيثياتها ومنع تفاقمها وايجاد حلول جذرية لمسبباتها واتخاذ اجراءات عقابية حفاظا على سلامة الصحة العامة للمواطن والبيئة بشكل عام ، مع العلم أن غالبية المحاصيل الزراعية يتم تسويقها داخل أراضي السلطة الفلسطينية حسب تأكيدات مجلس قروي النصارية.

أضف تعليقك