الديمقراطية الاجتماعية ... الطريق إلى المستقبل

يخوض الأردن الآن مرحلة تحديث شاملة للتغلب على التحديات السياسية الاقتصادية الاجتماعية التي لا تنفصل عن التحديات العالمية. ولنجاح عملية التحديث، فمن الأجدر أن تكون مبادئ وأسس الديمقراطية الاجتماعية (الاشتراكية) هي الرافعة لعملية التحديث مع عدم الانجرار الى معادلة الإدارة الريعية، فبناء وتحديث القطاع العام للوصول إلى مؤسسات كفؤة وقادرة، ودمقرطة هذه المؤسسات وقيادتها من أطراف سياسية -بعيدا عن منطق الخبراء والتكنوقراط- خلال التحديث السياسي والتحديث الاقتصادي بالاستفادة من الرأسمالية المنضبطة، وجعلها رافعة للرفاه والاستقرار الاجتماعيين من خلال المشاركة والتعاون بين القطاعين العام والخاص من أجل بناء أسواق وقاعدة اقتصادية وطنية تخدم الصالح العام هي الجوهر لنجاح التحديث.

شرع الأردن منذ حزيران/ يونيو 2021 في العمل على تحديث المنظومة السياسية، وتبعها العمل على رؤية للتحديث الاقتصادي (في 30 كانون الثاني/ يناير 2022)، وأخرى لتحديث القطاع العام. وصاغت اللجان المختارة المخرجات والتوصيات بشكل توافقي إلى حد كبير، لتشكّل مشروعاً شاملاً للدولة للسنوات المقبلة.

وقد عملت الحكومة مع البرلمان ومؤسسات الدولة ذات العلاقة على تعديل الدستور وقانوني الانتخاب والأحزاب، واعتَمدت خطط وجداول زمنية لتنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي من خلال برنامج تنفيذي للثلاث سنوات القادمة، وبرنامج تنفيذي لخارطة طريق تحديث القطاع العام.

أتى هذا الحراك في مؤسسات الدولة لإنجاز التحديث والإصلاح بعد ثلاثة عقود من التحول الاقتصادي، وما لحقه من انفتاح سياسي، والذي على الرغم من نجاحه في الحفاظ على الاستقرار الاقتصادي في الحد الأدنى وتنويع مصادر الدخل وتخطٍ لبعض المنعطفات الاقتصادية والسياسية الخطيرة، إلا أن تلك السياسات لم تقدم حلولاً للمعضلات الاقتصادية-الاجتماعية للمواطنين، وأدت إلى ازدياد التفاوت الاقتصادي ما بين الشرائح الاجتماعية المختلفة، وتعمق الصراع الطبقي، ما قاد بالنتيجة إلى درجة ملحوظة من التطرف السياسي والعصبية والاغتراب عن مؤسسات الدولة وخاصة المؤسسات المنتخبة منها، حتى وصلت ثقة المواطنين في هذه المؤسسات إلى أدنى المستويات، وهو ما يمكن ملاحظته بشكل دوري من خلال استطلاعات الرأي، التي يقوم بها مركز الدراسات الاستراتيجية، ودائماً ما يحصل البرلمان والمؤسسات المنتخبة على أقل نسبة ثقة من المواطن الأردني.

وفي ظل الانقسامات العمودية والأفقية في الأردن حول النهج السياسي والاقتصادي-الاجتماعي، وحول أدوار القطاع الخاص مقابل القطاع العام في إدارة الاقتصاد والتنمية والتحديث والتوظيف، وانعكاساتها على الرفاه الاجتماعي والأمن المجتمعي والحريات العامة، تعيش الأردن حالة من الانقسام في الرؤى والتوجهات بين ما يعبر عنه أردنيا: "الحرس القديم" أو "قوى الشدّ العكسي" و"الليبراليين" أو "الديجتال". وبدأت مظاهر الانقسام والتموضع مع الانفتاح الاقتصادي عبر تطبيق سياسات التحرير وازدادت حدتها مع تسريع عمليات تحرير الاقتصاد وخصخصته.

رافقت أيضاً عملية التحول الاقتصادي عملية سياسية معقدة، كان الانفتاح السياسي والدمقرطة عنوانها الأبرز، إلا أنها لم تؤد إلى انفتاح سياسي كبير وارتفاع سقف الحريات العامة حيث واجهت العملية تحديات مختلفة أدت إلى تجميد العملية أحياناً وتراجعها أحياناً أخرى، ما أثر بدوره على آلية تشكيل الحكومات وحضور القوى السياسية الفاعلة في مؤسسات الدولة وخاصة البرلمان، وانعكس سلباً على مساءلة الحكومة وعلى سياساتها الاقتصادية الاجتماعية التي كانت تتأثر بشكل كبير من خلال الاتفاقات مع صندوق النقد الدولي.

أضف على ذلك تأثّر المؤسسات الحكومية والعامة سلباً جراء سوء التخطيط وضعف الأداء العام الذي أكده "تقرير حالة البلاد" الصادر عن المجلس الاقتصادي الاجتماعي، وأحسّ به المواطنين من خلال نوعية الخدمات الأساسية مثل الصحة والتعليم بشكل أساسي.

...

بعد الحرب العالمية الأولى، أدى الكساد الكبير- الذي عبّر عن فشل الرأسمالية -إلى مشكلات اقتصادية عميقة ساهمت في إبراز التطرف وإنعاش الأحزاب السياسية الفاشية. ساعدت تلك الأحداث على تشكيل وعي الديمقراطيين الاشتراكيين، خاصة بما يتعلق بأهمية الإصلاح الاقتصادي-الاجتماعي وإصلاح الرأسمالية ومواجهة العواقب السلبية لها من خلال دعم مؤسسات الدولة الديمقراطية، وساد الاعتقاد لديهم أن الرأسمالية لن تأفل ولن تختفي، على عكس الشيوعيين الذين أرادوا إنهائها ولو بالعنف، والاشتراكيين الديمقراطيين الذين كانوا على قناعة أنها لن تستمر إلى أجل غير مسمى.

ساد الاعتقاد بعد الحرب العالمية الثانية لدى أغلب أحزاب اليسار ويمين الوسط معهم من أن نجاح الديمقراطية هو من خلال النجاح في تحقيق الازدهار الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي وإخماد الصراعات الاجتماعية. وعليه بدأ الأوروبيون بناء نظام جديد بناء على المبادئ التي نادى بها الديمقراطيون الاشتراكيون (الاجتماعيون) ونجحت أوروبا في الحفاظ على الديمقراطية، وازدهر الاقتصاد بشكل متسارع، وخفت المشكلات الاجتماعية للحد الأدنى من خلال التركيز على التوسع في الحقوق السياسية والاجتماعية للطبقة العاملة، وإنشاء دولة الرفاه. على الأقل خلال الثلاثين عاما التي أعقبت الحرب العالمية الثانية.

ومع التباطؤ الاقتصادي في سبعينيات القرن الفائت في أوروبا وأمريكا، بدأ الترويج من جديد لسياسات السوق المفتوح من قبل الأنظمة الاوروبية، ومنها الحكومات الديمقراطية الاشتراكية (الاجتماعية) ولو بشكل مستتر، وصولاً إلى فترة حكم توني بلير الذي اعتبر أن إصلاح الرأسمالية واحتوائها والاستفادة منها هي معركة قديمة بين السوق والدولة لا داعي لها، وبدأت الحكومات الديمقراطية الاشتراكية في تبني سياسات السوق المفتوح، حيث خصخص رئيس الوزراء الفرنسي ليونيل جوسبان بين عامي 1997 و2002 مرافق عامة أكثر من أي حكومة يمينية خلال الفترة نفسها. وعلى الرغم من النمو اقتصادي والابتكار غير مسبوقين، إلا أنه أدى أيضاً إلى تفاوت اقتصادي كبير وانعدام الأمن المجتمعي واضطراب اجتماعي هائل.

ما هو لافت أنه بعد أكثر بعد ثلاثة عقود من هيمنة الرأسمالية، عادت أوروبا وأميركا والعالم من خلفهم إلى التحديات نفسها التي عانوا منها في فترة الكساد العظيم من حيث تراجع الاقتصاد وتفاقمت المشكلات الاجتماعية وظهرت حركات فاشية من جديد، استطاع أن يفوز بعضها بنتائج الانتخابات البرلمانية في أوروبا.

تمّكنت أفكار الديمقراطية الاشتراكية (الاجتماعية) ومبادئها من خطّ طريق أدى إلى الاستقرار الاجتماعي، والازدهار الاقتصادي، وبناء المؤسسات الديمقراطية المسؤولة عن حفظ التوازن بين الديمقراطية والرأسمالية، تؤطرها مفاهيم أساسية وهي تعزيز الرأسمالية ومكاسبها، وفي الوقت نفسه حماية المواطنين واستفادتهم من الرأسمالية من خلال إعادة التوزيع وتقديم الخدمات الأساسية للمواطنين، وهي قادرة اليوم وفق المعادلة والصيغة ذاتها أن تعيد الاستقرار الاجتماعي والازدهار الاقتصادي.

 

  

 

أضف تعليقك