الأردن..رعب الدوار وحراك المعلمين

تتميز عمّان بساحاتٍ رصدت تطوّرها وتوسّعها عبر تاريخها، ابتدأت بالدوار الأول وتوقفت عند الثامن من حيث الأرقام، ولكنّ إنشاءها استمرّ بأسماء مختلفة في أنحاء المدينة، مثل دوار الداخلية وغيره. ميز هذه الدواوير، بالإضافة إلى التحكّم في حركة السير وضمان انسيابيتها، أنها كانت، في أحيانٍ كثيرة، متنفسا للفقراء من أبناء المدينة يقضون فيها بعض الوقت، للترويح عن أنفسهم، كونها تحوي كثيرا من عناصر الخضرة وأماكن للجلوس، كما أنها أعطت للمدينة شكلاً عاماً متّسقاً مع بيئتها الجبلية، أضفى جمالية مميزة. بقي الحال هكذا إلى أن برز دور جديد لهذه الأماكن، أعطتها إياه سعتها وقابليتها لأن تكون مكاناً للتجمع، ففي 24 مارس/ آذار في عام 2011، انطلقت شرارة احتجاجاتٍ سرعان ما تحولت إلى حراك شعبي، أدى إلى نتائج سياسية، وإن كانت جزئية، إلا أنها أخذت شكلاً من الرمزية في نفوس أردنيين كثيرين، حولت الدوار من مجرّد مكان لتنظيم حركة السير إلى مفهوم وطني، غرس في أذهان كثيرين الربط بين الدوار وتاريخ 24 آذار كانطلاقة كان لها ما بعدها. 

أدرك العقل الباطن للدولة الأردنية هذا التحول لمفهوم المكان وانفتاحه، ليكون إطاراً لكل المختلفين يجتمعون فيه على هدفٍ واحد هو التغيير. سارعت لأجل ذلك إلى تغيير معالمه، وغلق كل مساحةٍ يمكن أن يجتمع فيها اثنان، فملأته بالأشجار والورود الجميلة. والإطارات الإسمنتية المنمقة ارتفعت فوقها دربزينات فائقة الروعة، أعطت المكان جماليةً إضافية، لكنها حرمته من إمكانية حصول أي تجمعاتٍ ذات قيمة مؤثرة، يمكن أن تتخذ من الدوار مكاناً تنطلق منه، أو هكذا كان العقل الباطن لمن فكروا فيه يتمنى. وقد أثبت هذا الأمر حالة من القصور لدى نخبة صانعي القرار لماهية الظواهر الاجتماعية، وأنها، وإن اتخذت من الأماكن رموزاً، لكنها لا تتوقف عندها. أُثبتت هذه الحقيقة تظاهرات الدوار الرابع في يونيو/حزيران للعام 2018، والتي اتحدت فيها النقابات مع قوى المجتمع المدني الأخرى ضد رفع الضريبة. وأدت، في يومها الخامس، إلى إسقاط حكومة هاني الملقي. ومرة أخرى، يشكل الدوار وعاءً يحتوي في داخله كل أطياف الشعب الأردني، فأي قوة يمتلكها تعطيه الإمكانية لاحتواء الجميع، وصهر خلافاتهم وتوحيد طاقتهم تجاه هدف واحد.

المؤسف أن الدولة الأردنية تعاملت مع الحالة الاجتماعية التي أنتجت احتجاجات دوار الداخلية، وبعدها الدوار الرابع، بشكل قاصر عن فهم الدوافع العميقة لها، وإلى أين ستؤول، فبدلاً من  

"خبرة المجتمع العميقة بأساليب الحكومة جعلته يصطف إلى جانب المعلمين ومطالبهم"

الذهاب عميقاً إلى داخل الظاهرة، واجتراح حلول جذرية، بقيت في إطار الشكل، أعني كانت مرة أخرى تصب جام غضبها على المكان، تنتقم منه وتغيره. بدليل أنه قبيل يوم من موعد احتجاجاتٍ لنقابة المعلمين كان ملتقاها الدوار الرابع، تطالب فيها الحكومةَ بالإيفاء بما تقول إنها التزاماتٌ من الأخيرة بعلاوةٍ مقرّرة قبل أربع سنوات، ما حدا بهم إلى استخدام ثقلهم العددي وتنظيمهم المتميز، وتحكّمهم بمفصل مهم من قطاعات الدولة، التعليم، ما ترافق مع وفاة نقيب المعلمين، أحمد الحجايا، في حادث سير مفجع، ما أوجد حالة عاطفية موحدة جمعت المعلمين ووحّدتهم بمطلبهم هذا، قبيل يوم من الموعد، حفرت الحكومة فجأة الدوار الرابع مقابل رئاسة الوزراء، وقررت تغيير شكل الدوار إلى ما لم تتضح معالمه بعد، لأنه قيد العمل. وفي اليوم الموافق لتحرّك المعلمين، تحولت عمّان إلى ثكنه عسكرية، أُغلقت الطرق في كل اتجاه، تكدّست السيارات في الشوارع وقوفاً ساعات عديدة. ضجّت الناس بما يحدث، إلى درجة أن المخيلات ذهبت إلى أبعد من حراك المعلمين، وذلك كله حركته عقول قاصرة، كانت تقول إلا الدوار، وأرادت بهذه الازدحامات ان تؤلب المجتمع على المعلمين.

انقلب السحر على الساحر، فخبرة المجتمع العميقة بأساليب الحكومة جعلته يصطف إلى جانب المعلمين ومطالبهم، فالسطحية والسذاجة التي أنتجت يوماً كئيباً سيتذكّره الأردنيون كثيراً هو أن دولتهم باتت قاحلة من صُنّاع قرارات حكيمة، تجيد فهم الدوافع العميقة للموجات المجتمعية التي تتدفق بين حين وآخر، والتي لا تسقط الحائط، لكنها تغيّر عميقا في عناصر صموده، إلى أن يأتي تيار جارف، لا يستطيع أحد أن يقف في وجهه، فهذه الموجة، وإن كانت قابلةً للتوسع، ولكن ستليها موجات أخرى. وقد اتضح أن صُناع القرار ما زالوا يتعاملون مع الحال كأنهم يمتلكون كل عناصر القوة، متناسين أن المجتمع الذي شجعته حالة السيولة في البلد، بدأ يكوّن أثقاله الخاصة به، والتي يستخدمها للدفاع عن مصالحه، اختلف معها الآخرون أو اتفقوا، فهو يمتلك أدواته للدفاع عن ذاته. وبذلك يكون الحديث بالصيغة القديمة شيئاً من الحمق، والدولة تمتلك القوة والقانون الذي لوحت به الحكومة في مواجهة قوة المعلمين العددية، وتحكّمهم بواحد من أهم المفاصل، فهل تتحوّل الأمور إلى كسر عظم؟



"الدولة الأردنية باتت قاحلة من صُنّاع قرارات حكيمة"

 الإعلاميين لإلباس هذا الحراك ثوباً تآمرياً. لن يجدي ذلك كله هذه المرة، فأركان الدولة تسقط حججهم أمام أي مقاربة للحال التي أوصلوا البلد إليها، والتي جعلت الحال يضيق على المعلمين وغيرهم، ما جعل معسكر الحكومة منقسماً تحكمه الرؤية الأمنية، يفتقر لإمكانية المناورة، لفقدانه عنصر الثقة. وفي الطرف الآخر، المعلمون متماسكون، لا تظهر في صفوفهم انقسامات، على الرغم من محاولاتٍ لإيجاد شرخ، ويبقى لدى الحكومة تأليب ذوي الطلاب عليهم.

ربما تتسع ظاهرة المعلمين في وزارة التربية والتعليم في الأردن، وتنضم لهم في المطالب نقابات أخرى، بسبب أن الحكومة راكمت وعودا كثيرة لم تلتزم بها، فهل تشكل هذه المطالب المؤجلة سيلاً جارفاً من الاحتجاجات. وحتى لو لم يحصل ذلك، فمن دوار إلى دوار، تتراكم نجاحاتٌ، وإن كانت صغيرة، لكنها ستشكل ذات يوم قوة حقيقية قادرة على التغيير. ولهذا سيبقى المكان هاجس أصحاب عقول عاجزة، جاءت بهم إلى مواقع المسؤولية اعتبارات ليس منها الكفاءة، ولكن هؤلاء سيفوتهم القطار يوما.

العربي الجديد

أضف تعليقك