ما الفرص والتحديات التي تواجه الأردن دوليًّا وإقليميًّا؟
واجه الأردن العام الماضي العديد من التحديات خاض خلالها جهودًا دبلوماسية وحراكًا إقليميًّا ودوليًّا موسّعًا للتعامل معها، ولربما هذه الجهود كانت منصبة في تحقيق عدد من الإنجازات كان أهمها تقليل الخسائر في ظل التقلبات والأزمات والتحولات التي شهدها ويشهدها الإقليم والعالم من أبرزها الأزمة الروسية – الأوكرانية وملف القضية الفلسطينية.
يرى صنّاع السياسة الخارجية في الأردن، أن لعب الدور المهم يتطلب عدم الغياب والقدرة المستمرة على الانخراط والجلوس على الطاولة، كما أن السياسة الخارجية الأردنية مبنية بالدرجة الأساس على حماية المصالح الوطنية والذهاب إلى أي نقطة تخدم هذه المصالح، لكن ذلك في المقابل يتطلب استيعاب قدرة الدولة الأردنية على اتخاذ الأدوار التي تستطيع القيام بها.
تحاول الورقة من خلال استعراض عدد من الملفات المتعلقة بالعلاقات الخارجية الأردنية، الإجابة على عدد من التساؤلات؛ ما هي أبرز الفرص للمصالح الحيوية الاردنية في العام الحالي 2023؟ وما هي مصادر التهديد للأمن الوطني الأردني؟ وما هي التحديات التي تواجه الدبلوماسية الأردنية؟ وما هي الأولويات التي من المفترض أن تكون على قائمة الأولويات الوطنية؟ وما هي الخيارات الاستراتيجية فيما يتعلق بالتحديات والفرص والتهديدات؟
العلاقة مع الولايات المتحدة … ثقة عابرة لإدارات البيت الأبيض
من الواضح أنّ هنالك تعاونًا استراتيجيًّا وشراكة عميقة وتاريخية بين الأردن والولايات المتحدة الأميركية، بما يتجاوز تبدل وتغير الإدارات الأميركية، سواء أكانت جمهوريّة أو ديمقراطيّة في البيت الأبيض، ولربما أن زيارة الملك الأخيرة إلى الولايات المتحدة إلى جانب الاتفاقية التي وُقعت مؤخرًا بين البلدين والتي تعد الأطول زمنًا والأكثر قيمة (مليار و650 مليون دولار أمريكي) تعد إحدى المؤشرات المهمة على استمرار ثقة واشنطن بعمّان.
وفي ظل وجود اختلافات في قراءة بعض ملفات المنطقة، تتشارك الولايات المتحدة مع الأردن في مناقشة عدد من الملفات أبرزها القضية الفلسطينية والأزمة في سوريا.
على مستوى القضية الفلسطينية، رغم أن تصريحات الرئيس الأمريكي ونائبته كاميلا هاريس تؤكد على الوصاية الأردنية على المقدسات في القدس والتمسك بحل الدولتين والذي سبقه تصريحات وزير الخارجية الأمريكي، بلينكن، خلال زيارته للمنطقة ولقائه بالمسؤولين الفلسطينيين والإسرائيليين عبّر فيها عن تمسك الولايات المتحدة بخيار حل الدولتين، لكن على أرض الواقع لم يؤد وصول الرئيس الحالي بايدن إلى البيت الأبيض إلى مراجعات وتغييرات على السياسات الأميركية، بل من الواضح تمامًا أنّ الإدارة الجديدة لم تقدّم أي مشروع للتسوية السلمية، وانتقلت الاهتمامات إلى الملفات الأمنية والاقتصادية والخدماتية، لربما أن الدور الأميركي يساعد الأردن في التخفيف من حدّة الأزمات مع الحكومة اليمينية الإسرائيلية الحالية، لكنّه لا يملك حلًّا.
وإذا ما تم التطرق للقضايا الأخرى، فالولايات المتحدة اليوم تدعم خطوات الأردن في مشروعه لحل الأزمة السورية عبر الحل التدريجي والاحتواء عربيًّا، كما تدعم الشراكة والانفتاح الأردني على العراق سواء في إطار العلاقات الثنائية (وهو ما أكده إشراك الملك بالاتصال الذي جمع بايدن برئيس الوزراء العراقي) أو المشاريع الثلاثية بين عمّان وبغداد والقاهرة.
العلاقة مع الاتحاد الأوروبي … شراكة مستمرة
أنجز الأردن مع الاتحاد الأوروبي اتفاقيات التعاون لهذا العام، ويعد الأردن أول دولة تنهي إجراءات الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، كما ولأول مرة في تاريخ الشراكات الأوروبية يجتمع مجلس الشراكة خارج أوروبا ويأتي إلى الأردن، لترتيب الأولويات، خصوصًا الاقتصادية.
يسعى الأردن من خلال هذه الشراكة القائمة على أسس واضحة إلى الدعم الأوروبي في مواقفه السياسية تحديدًا فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، لكن في المقابل ما يزال الدور الأوروبي محدودًا في الشرق الأوسط، وعلى الأغلب سيبقى الأمر كذلك هذا العام، لكن يبقى المطلوب أردنيًّا هو تعزيز علاقاته مع الدول الأوروبية وتنشيط دوره في الضغط الدولي ضد الإجراءات الأحادية الإسرائيلية، وتعزيز مساعداته الاقتصادية للأردن.
كما يسعى إلى إيجاد حلول لقضية اللاجئين في الأردن مع الاتحاد الأوروبي عبر اتخاذ إجراءات استثنائية، خاصةً وأن 10% فقط من اللاجئين متواجدون في المخيمات، و50% منهم تحت سن 15 عامًا، ما يعني أن احتياجاتهم لم تعد احتياجات إغاثية متعلقة بالطعام والشراب وحسب. ومنذ الأزمة الأوكرانية -الروسية جعلت أوروبا الدعم ينصب باتجاه أوكرانيا، في المقابل يرى الأردن بأن هذه الظروف غير مبررة لنسيان اللاجئين السوريين، كما أن حل قضية اللجوء في الأردن يعني التخفيف من وطأة الهجرة إلى أوروبا، وبالتالي إذا ما وُفر خيار العيش الكريم في المنطقة سيكون ذلك أقل كلفة على أوروبا من هجرة اللاجئين.
أفضت الجهود الأردنية في مناقشاتها ولقاءاتها مع الاتحاد الأوروبي إلى الاتفاق على أن يعقد مؤتمر بروكسل للاجئين مبكرًا في مارس/آذار العام الحالي بدلًا من يونيو/حزيران ليتسنى وجود مساحة للتحرك قبل إقرار المبادرات واعتماد الخطط.
العلاقة مع العراق … مزيد من التفاؤل
على الرغم من التغيير الكبير الذي حصل في تركيبة الحكومة العراقية بعد رحيل رئيس وزراء المرحلة الانتقاليّة مصطفى الكاظمي، إلا أن خيار رئيس الوزراء العراقي الجديد محمد شياع السوداني بأن تكون وجهة زيارته الخارجية الأولى الأردن هي مؤشر على الموقع الذي يريد أن يذهب إليه العراق في علاقته مع الأردن، مما أعطى مؤشرات “مطمئنة” لدى الجانب الأردني، الذي يرى في العلاقة مع العراق فرصة اقتصادية كبيرة، طالما أن الأسس التي قامت عليها جيدة.
شهدت العلاقات بعد زيارة رئيس الوزراء العراقي مزيدًا من الالتئام بعد انعقاد مؤتمر (قمة بغداد 2) الذي استضافه الأردن في البحر الميت في ديسمبر/كانون الأول العام الماضي، فقد أكد العراقيون خلال القمة في المحادثات الثنائية التزامهم بآلية العمل الثلاثية مع الأردن ومصر، والمشاريع الثنائية بين عمّان وبغداد. وهذا ما ينعكس عمليًّا اليوم من خلال اتفاقية الربط الكهربائي مع العراق التي ستشهد تفعيلًا خلال الفترة القريبة المقبلة، بالإضافة إلى المدينتين الصناعيتين القريبتين من بدء العمل، وليس انتهاءً بمشروع أنبوب النفط القادم من البصرة باتجاه العقبة الذي سيرى النور. والجدير بالإشارة هنا إلى أن آلية التعاون الثلاثية عابرة للحكومات في العراق، كما أشار وزير الخارجية العراقي، فؤاد حسين، في تصريح له، كما أنها قائمة على “المنفعة المشتركة” بين جميع الدول الأطراف، أي أنها ليست آلية تخدم مصلحة دولة على حساب دولة أخرى، وهذا ما يعول عليه الأردن اليوم ويحاول إيصاله من خلال جهود يقدمها لمخاطبة الرأي العام العراقي، وقد شهدت الفترة الأخيرة زيارة وفود برلمانية وإعلامية أردنية إلى العراق وتوقيع عدد من الاتفاقيات بين البلدين.
الأزمة في سوريا … مساعٍ أردنيّة لاحتوائها عربيًّا
يسعى الأردن اليوم ومن خلال المشاورات مع الدول العربية والأطراف الدولية إلى دعم الانخراط الكامل لسوريا وإعادة احتوائها عربيًّا. وفي اللقاءات التي جمعت مسؤولين دبلوماسيين أردنيين مؤخرًا مع دبلوماسيين سوريين، لمس الجانب الأردني تجاوبًا سوريًّا كبيرًا مختلفًا عن اللقاءات في السنوات السابقة، بعد خوض الكثير من النقاشات المعمقة.
هذه الجهود الأردنية، استدعت مفاتحة الجهات الدولية لحشد دعم موقفه من خلال مفاتحة الإدارة الامريكية والاتحاد الأوروبي، بعد أن وضع الأردن آلية سياسية يراها فاعلة تستند إلى منطلقات متعلقة بالتدرج في حل الأزمة، من خلال واقعية الطرح، لضمان عدم مواجهة عقبات من البداية والاستناد على إجراءات بناء الثقة تساعد في مقاربة الأمر الأكثر تحقيقًا، مما جعله اليوم يستعد لإطلاق هذا الطرح على أصحاب المصلحة في الأزمة.
وحول موقف الأطراف الدولية، فإن الولايات المتحدة والأوروبيين يران بأن الطرح المقدم من الأردن هو الأفضل للتعامل مع الأزمة السورية.
يبني الأردن موقفه أمام الأطراف الأخرى على أنه الوحيد الذي قدم آلية سياسية بديلة عما يجري اليوم، ففي غياب البديل لا يستطيع الأردن في حدود تربطه مع سوريا تمتد إلى أكثر من 350 كيلو متر أن يبقي على سياسة (إدارة الوضع الراهن)، فهذه السياسة لم تحقق شيئًا على أرض الواقع سوى استمرار الأزمة وتعقيدها.
تأتي هذه الجهود الأردنية ليست من منطلق رغبة الأردن بإنهاء الأزمة السورية وحسب، بل لوجود مصلحة أردنية وطنية عليا مرتبطة بعدة قضايا على رأسها ما يجري على الحدود السورية -الأردنية، وما يشهده الجنوب السوري من تنامٍ في عمليات تهريب المخدرات والسلاح تضع الأردن في المواجهة باستمرار وسط الوضع “اللا مستقر”.
كما أن رغبة الحل مرتبطة بحل قضية اللاجئين؛ فهنالك 70% من اللاجئين السوريين قدموا إلى الأردن من مناطق الجنوب السوري، وبالتالي فإن الاستقرار في سوريا وفي الجنوب السوري تحديدًا يعني بالنسبة للأردن تهيئة الأوضاع لعودة اللاجئين الطوعية، واستمرار حالة عدم الاستقرار تعني خلاف ذلك.
وفي ذات السياق، عمل الأردن بشكل مكثف مع روسيا وسوريا من أجل تجديد القرار 2642 في مجلس الأمن المتعلق بالتعافي المبكر في سوريا واستمرار آلية توصيل المساعدات في شمال سوريا.
يرى الأردن أهمية كبيرة في أن يكون للعرب دور قيادي في حل الأزمة لكن ضمن معايير واضحة تضمن معالجتها، وفي الوقت نفسه فإن أي حوار يجب أن يرتكز على معالجات ومقاربات منطقية للتعامل مع هذه الأزمة، وهو ما يستند إليه صناع القرار الأردنيون في لقاءاتهم مع المسؤولين العرب على أمل الوصول إلى اتفاق على آلية الانخراط وأهدافها وإجراءاتها.
العلاقة مع دول الخليج … في طور التحسّن رغم اختلاف بعض الأولويات
تشهد العلاقات الأردنية – الخليجية تحسّنًا في طور العلاقات السياسية، فالطرح الذي يقدمه الملك اليوم القائم على مبدأ المنفعة المشترك (win – win) كان له دور كبير في وضوح ما ستؤول إليه المرحلة المقبلة والتعامل مع الواقع اليوم. خاصةً وأن مرحلة الدعم المالي والمساعدات التي كانت تأتي للأردن انتهت، وبالتالي فإن التحدي اليوم بالنسبة للأردن يكمن في كيفية التموضع وتقديم فرص يراها الجميع أنها مفيدة للطرفين.
يدرك صناع القرار أنه في ضوء ما يشهده العالم من تغير، فإن أولويات الدول تتغير أيضًا، فالبحرين والإمارات اقتضت مصالحهما ورؤيتهما لمصادر التهديد أن تذهبا نحو التطبيع مع إسرائيل وتوقيع اتفاقيات السلام، لأنّها (تلك الدول) ترى في بعض أطراف المنطقة خطرًا محدقًا بالنسبة لها أكثر من إسرائيل، كإيران على سبيل المثال.. لذا، لا يجد صناع القرار الأردنيون أنه من الذكاء أن يتخذ الأردن موقفًا نقديًّا معارضًا لتوجهات تلك الدول أو الاصطدام معها، بل المطلوب أن يحاول الإبقاء على الحدّ الأدنى من التنسيق معها فيما يخص القضية الفلسطينية والموقف من سياسات الحكومة الإسرائيلية الجديدة. الأمر الذي يترافق معه قناعة صناع القرار بأنه ليس بالضرورة أن يتفق الحلفاء على كل شيء مع وجود الاختلاف والتباين بين المنظور الأردني للمصالح الوطنية ومصادر التهديد والأولويات لرؤية تلك الدول، وهذه المقاربة تشمل العلاقات الأردنية – السعودية أيضًا والدول الخليجية الأخرى. ولا يغفل الأردن عن مصالحه الوطنية أيضًا في ظل وجود قرابة 600 ألف أردني يعيشون في السعودية و300 ألف أردنيّ في الإمارات و50 ألفًا آخر في البحرين.
لقد تغيرت العلاقات الأردنية-الخليجية بصورة كبيرة عما كانت عليه في العقود السابقة، وقد أوضح الخليجيون بوضوح أنّ نظرتهم لمصالحهم تغيرت، ومن ذلك الدعم المالي الكبير الذي كان يتلقاه الأردن ويصب مباشرة في الموازنة، بينما في الأعوام الأخيرة لم يحصل الأردن على أي دعم مالي، وهنالك، كما أوضح وزير المالية السعودي مؤخرًا في مؤتمر دافوس، اشتراطات سعودية للدعم المقدم.
زيارة الملك إلى الجزائر … البحث عن مساحات جديدة للتوسع
خلال السنوات الأخيرة، كان واضحًا أن جزءًا رئيسًا من الجهود التي تقوم بها السياسة الخارجية الأردنية هو البحث عن مساحات جديدة للتوسع وللعمل، تحديدًا في قضايا الاقتصاد، لخلق خيارات إضافية أو بديلة، كان من أبرزها الانفتاح الواسع على العراق. ومن تلك الجهود زيارة الملك الأولى إلى الجزائر وحديثه المعمق مع الجزائريين الذي يسعى من خلاله إعادة بناء العلاقة مع الجزائر بما يؤسس لعلاقة اقتصادية تعود بالنفع الملموس على قطاعات عديدة داخل الأردن إلى جانب العلاقات السياسية؛ فالأردن يرى أن انخراطه مبكرًا مع الجزائر فرصة يمكن البناء عليها، خاصةً وأن الجزائر تمر بعهد انفتاح غير مسبوق بعد موجة الربيع العربي التي شهدتها والانفتاح الذي يبديه النظام السياسي الجديد بقيادة، عبدالمجيد تبون. كما كان للجهود الأردنية بصمة في القمة العربية “قمة فلسطين” التي عُقدت في الجزائر والتي احتوى بيانها خطابًا أردنيًّا بما يتعلق بالقضية الفلسطينية.
الأردن وإيران … علاقات معقدة عنوانها “الحدود”
يدرك الجانب الإيراني أن فتور العلاقات من جانب الأردن لا يتعلق فقط بموقف الحلفاء، فالأردن يرى بالسياسات الإيرانية تهديدًا، في ظل نشاط وكلائها من المليشيات المسلحة على الحدود الأردنية من جهة الجنوب السوري والتي تقود عمليات تهريب المخدرات والسلاح، فالأردن بعد أن كان ممرًا للمخدرات إلى الخليج بات اليوم مستهدفًا في عمليات التهريب هذه ويشهد تحديات تهدد أمنه الوطني، ويخوض حرس حدوده بين آونة وأخرى معارك على الحدود الشمالية، بسبب هذه المليشيات إلى جانب التنظيمات الجهادية كداعش وتنظيم حراس الدين التي تسعى جاهدة لاستعادة شيء من بريقها.
لا يبدو أن الأردن مستعد لتطوير العلاقات مع إيران وتذويب الجليد بمعزل عن الأخذ بعين الاعتبار مصالح البلاد الوطنية، فعلى الرغم من طلب إيران المتكرر باستعادة السفراء بين البلدين إلا أن الخارجية الأردنية ترى أن هذا الإجراء يجب أن يُسبق بمعالجة الأسباب التي أدت إلى توتر هذه العلاقات ووضعها على طاولة المشاورات سواء تلك التي تجمع بين الوفود السياسية أم الأمنية بين البلدين. كما أن تحسين العلاقة مع إيران من وجهة نظر أردنية مرهون بسياساتها ومدى تدخلاتها.
الأردن والقضية الفلسطينية… تحدي حكومة إسرائيل اليمينية
ينظر صناع القرار في الأردن إلى حكومة بنيامين نتنياهو الجديدة المتحالفة مع القوى اليمينية المتطرفة بصفتها خطرًا داهمًا يهدد الأمن الوطني الأردني، فالخطابات والسياسات التي قد تعتمدها الحكومة الإسرائيلية قد تؤدي إلى تفجير الأوضاع في فلسطين مما ستؤدي إلى ارتدادات متعددة خطيرة على الأردن، ويمس الدور الأردني وشرعيته في “الوصاية” التي تعني (الحماية، الرعاية المادية والبنية التحتية والصيانة، والإدارة) على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس.
في المقابل، من المرشح جدًّا أن الأمور قد تزداد سوءًا هذا العام مع الحكومة اليمينية الإسرائيلية إن بقيت قائمة، ولم يتفكك التحالف الحاكم هناك، بسبب الأزمات داخل الحكومة نفسها وأزمتها مع الشارع العلماني في إسرائيل. لكن إذا ما تم الإمعان إلى “الإطار الأكبر” فإنّ هنالك مشكلة حقيقية تواجه الأمن الوطني الأردني تتمثل في تحولات القاعدة الانتخابية في إسرائيل، وغياب حل الدولتين عن الطاولة، وضعف السلطة الفلسطينية وسؤال مرحلة “ما بعد عباس”، وتصاعد العنف الإسرائيلي واتساع المستوطنات والردّ الفلسطيني عليه خلال الفترة الأولى من هذا العام، في مقابل تحولات بنيوية في المحيط الاستراتيجي العربي لصالح العلاقة مع إسرائيل، مما يضعف من قدرة الأردن التفاوضية وفي الضغط على الجانب الإسرائيلي، وتبدّى ذلك في اجتماعات النقب -التي لم يحضرها الأردن لقناعته بأن الطرف الفلسطيني يجب أن يكون حاضرًا في أي اجتماع يتعلق بالقضية- واليوم التالي لزيارة نتنياهو للأردن في شهر يناير/كانون الثاني من هذا العام، إذ قام أحد وزرائه المتشددين باقتحام المسجد الأقصى وحدثت مواجهات دامية بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
تزايد الخطر الإسرائيلي بالنسبة للأردن يعني الذهاب باتجاه حل الدولة الواحدة، وحل الدولة الواحدة لن يكون حلًّا بل هو حقيقة تكرس لحالة (الابرتايد – الفصل العنصري) مما سيؤدي إلى تفجر الأوضاع في ضوء العديد من القضايا منها قتل الحق الفلسطيني في تقرير المصير، وأيضًا في المسائل الحياتية؛ فمعدل الدخل المحلي السنوي للفرد الفلسطيني أقل من 4 آلاف دولار مقارنة بأكثر من 40 ألف دولار للفرد الإسرائيلي.
لذلك، ينصب الجهد الدبلوماسي الأردني اليوم في التحرك عربيًّا ودوليًّا لأنه يعتقد أن ما تمثله الحكومة الإسرائيلية الجديدة بمكوناتها وأطرافها وايديولوجيتها ستضعها في مواجهة مع المجتمع الدولي، لذلك فهو يوصل رسائله التي تعبر عن قناعاته بعدم إمكانية القفز دوليًّا – إقليميًّا على القضية الفلسطينية وتجاهلها، وأن الخلاف ليس محصورًا في الإطار الأردني – الإسرائيلي، بالإضافة إلى أن حل القضية الفلسطينية ليس مرتبطًا بالأردن وحسب. ولعل الزيارات التي قام بها الملك مؤخرًا إلى دول عربية وإلى كندا والولايات المتحدة تعبر عن هذه الجهود والقناعات.
في الداخل الفلسطيني، يستمر الأردن بالتنسيق القوي مع السلطة الفلسطينية، وتنصب جزء من جهوده في إعادة تقوية المؤسسات الفلسطينية للقيام بدورها. فالأردن ما يزال يرى أن السلطة الوطنية الفلسطينية هي التي اختارها الشعب الفلسطيني لتقود هذه الدولة رغم الخطر المحدق الذي قد يصيب السلطة في أي لحظة تحديدًا في مرحلة ما بعد محمود عباس، لكن الأمر الواقع اليوم يفرض التركيز على مسألة وجود احتلال دون أي شيء آخر، والضغط المستمر باتجاه حل الدولتين.
في ملف “الأونروا”، اعتبر الأردن “الأونروا” أولوية على مدار سنوات، وعلى الرغم من أن الإدارة الامريكية الماضية حاولت القيام بتصفية سياسية من خلال إيقاف الدعم عن “الأونروا”، إلا أن دخول الأردن في حوار مع الولايات المتحدة بإدارتها الجديدة استطاع الحفاظ عليها والحصول على تمويل أكبر بقيمة 330 مليون دولار بالإضافة إلى تجديد ولايتها لثلاثة أعوام قادمة بجهود أردنية – سويدية.
يدرك الأردن أن المرحلة تغيرت، وأن الاهتمام الدولي بالقضية الفلسطينية تغيّر، لكنه لا يستطيع التراجع عن دوره بما يحمي مصالحه وتوجهاته. لذلك فإن الجهود الأردنية لا تتوقف ودائمًا ما يؤكد على عدم تغير الثوابت الأردنية كحق الفلسطينيين في أن تقوم دولتهم المستقلة، والتأكيد المستمر على المواقف الأردنية تجاه ما يحدث في الضفة الغربية، والتمسك بحل الدولتين.
الخلاصات
1- يركز الأردن اليوم على حشد الموقف الدولي (تحديدًا الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي) والعربي للضغط باتجاه الالتزام بخيار حل الدولتين وخفض التصعيد والتأكيد على الوصاية الأردنية على المقدسات، وأي تصرف تقوم به حكومة إسرائيل المتطرفة، ويأتي الموقف الأردني لاعتبارات عديدة أبرزها الأمن الوطني الأردني. كما يقدم الدعم المستمر للسلطة الفلسطينية ويسعى إلى تقوية مؤسساتها من منطلق (لا بديل عن السلطة إلا الفوضى).
2- عراقيًّا، انخراط الملك المبكر في العلاقات مع العراق جعل الأردن مطمئنًا تجاه الشراكة وآلية التعاون الثلاثة التي تجمع مصر أيضًا القائمة على مبدأ “المنفعة المشتركة”، وما يزال الأردن يترقب المشاريع التي ستبدأ قريبًا، ويسعى إلى تعزيز هذه الشراكة عبر مخاطبة الرأي العام العراقي، وإن كان هذا التعاون لا يخلو من التحديات.
3- سوريًّا، يبذل الأردن جهودًا كبيرة لإعادة احتواء سوريا في الإطار العربي عبر عقد المشاورات والمباحثات مع المسؤولين السوريين والعرب وحشد الدعم الدولي من خلال طرح آلية حل تدريجية بديلة عن آلية الإبقاء على الوضع الراهن.
4- خليجيًّا وعربيًّا، فالعلاقات تشهد تحسّنًا رغم اختلاف الأولويات لدى الدول الخليجية بشأن الموقف من القضية الفلسطينية وانقطاع المساعدات لكنه يركز على كيفية التموضع وتقديم فرص يراها الجميع أنها مفيدة للطرفين، كما أن الأردن يبحث اليوم عن توسيع خياراته عبر الانفتاح على دول عربية لم يسبق أن أقام معها شراكات واسعة مثل الجزائر.
5- أمنيًّا، يستشعر الأردن تحديًا امنيًّا داهمًا على حدوده مع الجنوب السوري في ظل وجود مليشيات عراقية وأفغانية حليفة لإيران تدعم عصابات تهريب السلاح والمخدرات إلى داخل الأردن ويسعى من خلال جهوده الدبلوماسية والأمنية إلى وضع حد لهذه العمليات. ولا يغفل الأردن عن احتمالية عودة انتعاش التنظيمات الأخرى، مثل داعش وحراس الدين، على حدوده.
6- يبقى التحدي الأساسي اليوم للأردن هو الوضع الاقتصادي، وتحسينه هو على رأس أولويات السياسة الخارجية كما الداخلية، من خلال بناء الشراكات وإقامات العلاقات الاقتصادية سواء عربيًّا أم دوليًّا وتوسيعها من خلال الجهود الدبلوماسية.
التوصيات
العلاقة مع الولايات المتحدة
- في الجانب السياسي، ينبغي استثمار ما تبقى من فترة إدارة الرئيس جوزيف بايدن في ممانعة أي إجراءات أحادية الجانب من الإسرائيليين فيما يتعلق بالقدس والمستوطنات ومحاولات تغيير الوضع القائم.
- استثمار المساعدات الأميركية المتزايدة إلى الأردن بصورة أفضل في المشروعات الداخلية الأردنية، في ظل وجود نسبة من المساعدات تُقدّر بمئات الملايين تذهب بصورة غير مدروسة، ومن دون وجود تقييم حقيقي لها.
العلاقة مع الاتحاد الأوروبي: - استثمار التحسن الملموس في العلاقات مع الاتحاد الأوروبي، والعمل على تشجيع التعاون مع هذه الحكومات والوكالات التابعة لها، وتعزيز التقارب في وجهات النظر، والبحث عن سبل تعزيز مساعداتها الاقتصادية إلى الأردن.
- بذل المزيد من الجهود لتطوير الدور الأوروبي الإيجابي فيما يتعلق بالأوضاع في فلسطين وفي العلاقة مع الإسرائيليين، وتنشيط دورها في الضغط الدولي ضد الإجراءات الأحادية الإسرائيلية.
العلاقة مع العراق: - التقارب بصورة أكبر وأوسع مع العراق والعمل على تأطير أعمق للمصالح السياسية والأمنية والاستراتيجية والاقتصادية المتبادلة بين الدولتين، والعودة إلى مفهوم “العمق الاستراتيجي” بين الدولتين، وتنشيط الدبلوماسية العامة، وإزالة ما تبقى من ركام من سوء فهم بين القوى الحاكمة اليوم في العملية السياسية في العراق والأردن.
العلاقة مع سوريا: - مراجعة العلاقات مع سوريا والنظر في الطريقة التي يمكن من خلالها تحسين التبادل التجاري بما يخدم الدولتين وبناء مقاربة أردنية للتعامل مع العقوبات الدولية على سوريا، إلى جانب الجهود السياسة الأردنية للاحتواء العربي.
- تنشيط الدبلوماسية الأردنية القائمة على استراتيجية الخطوة بخطوة تجاه النظام السوري، والعمل على تطوير المقاربة الاردنية لتحسين العلاقات والمشاركة في مشروع إعمار سورية.
العلاقة مع إيران: - مراجعة العلاقات مع إيران والبحث عن القواسم المشتركة، وعقد تفاهمات مع الإيرانيين فيما يتعلق بمصادر التهديد الأمني والإزعاج التي يراها الأردن، خاصة ما يتعلق بالحدود الشمالية للمملكة.
- استئناف النقاشات الأمنية بين الجانبين الأردني – الإيراني التي بدأت في بغداد قبل عامين، وأن يكون هنالك حوار استراتيجي سياسي موازٍ لها، وأن يسعى الأردن إلى إعادة السفير الأردني لطهران ضمن منظور واضح للمصالح الأردنية المرتبطة بالعلاقات مع هذين البلدين.
العلاقة مع دول الخليج: - مراجعة العلاقات مع المملكة العربية السعودية، والعمل على تطوير مفهوم جديد للمصالح المتبادلة، بما في ذلك المصالح الاقتصادية، وتحريك الصندوق الاستثماري المشترك السعودي- الأردني، وتطوير قاعدة بيانات أفضل لتعزيز إيجاد فرص عمل للأردنيين هناك.
- العمل على تطوير وتعزيز قدرات السفارات الأردنية في الخليج العربي، بخاصة السعودية، الإمارات وقطر واستثمار المغتربين الأردنيين هناك من أجل بناء فهم أفضل لكيفية تحسين الاستثمارات الاردنية وفرص العمل للأردنيين في تلك الدول.
- أن يكون هنالك بناء لتصور جديد للعلاقة مع الخليج عمومًا يقوم على إدراك عميق للتغيرات الهائلة التي حدثت في هذه الدول خلال العقد الأخير، وتحول نظرتها إلى أدوارها الإقليمية في المنطقة، والاختلاف والتباين بين المنظور الأردني للمصالح الوطنية ومصادر التهديد والأولويات ورؤية تلك الدول، وهي الاختلافات التي ظهرت في أكثر من مجال؛ سواء في حرب اليمن أو الموقف من الاتفاقيات الإبراهيمية أو العلاقة مع إيران وتركيا.
- أن يحاول ا لأردن الحفاظ على علاقات جيدة عمومًا مع “البيت الخليجي” وأن يسعى إلى تعريف مصالحه بصورة كبيرة، وأن يقوم بما هو مطلوب منه من واجبات فيما يتعلق بمهمة جذب الاستثمارات الخليجية، مثل الصندوق الأردني السعودي المشترك شبه المعطل، وأن يجعل من فتح أسواق للعمالة الأردنية في الخليج أولوية رئيسية للدبلوماسية الأردنية.
القضية الفلسطينية وتحدي حكومة إسرائيل الجديدة
- الانخراط بصورة أكبر في الشأن الفلسطيني، فيما يتعلق بالضفة الغربية، وفي الترتيبات للمرحلة القادمة، والتوقف عن “اللغة الدبلوماسية الخجولة” بعدم التدخل في الشؤون الفلسطينية، فما يحدث هناك يمس ويشتبك مع الأمن الوطني الأردني بصورة كبيرة، والأردن معني تمامًا بملف الضفة الغربية أكثر من اي دولة أخرى في العالم وفي المنطقة.
- التفكير والتأطير لما يسمى الخطة ب Plan B، ورسم السيناريوهات المحتملة وترسيم المصالح الاردنية في كل حالة من الحالات المذكورة، سواء انهارت التسوية تمامًا ودخلت الأمور هناك في طور الصراع المسلح، أو في الوضع في القدس في مواجهة مخطط إسرائيلي معلن وواضح، أو مرحلة ما بعد عباس، أو الترويج ومقاربة الحقوق السياسية والإنسانية للفلسطينيين، التي بات يطرحها نخبة من السياسيين والدبلوماسيين.
- تحريك وتعزيز الدبلوماسية الشعبية في العلاقة مع القوى السياسية والشخصيات الفلسطينية، وتطوير العلاقات البينية والتفكير في تحسين كبير في الخدمات على الجسور والمصالح المتبادلة بين الأردنيين والفلسطينيين، وتطوير النفوذ الأردني في داخل الضفة الغربية.