سَجَعُ الموتى

سَجَعُ الموتى
الرابط المختصر

 

“حسم مفتي عام المملكة، رئيس هيئة كبار العلماء ورئيس اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ، الجدل بخصوص إعلان هيئة الترفيه الترخيص بالحفلات الغنائية ودراسة إنشاء دور السينما، بالتحذير من أن الحفلات الغنائية والسينما لا خير فيها وضرر وفساد كله مفسد للأخلاق ومدمر للقيم ومدعاة لاختلاط الجنسين. السينما قد تعرض أفلاماً ماجنة وخليعة وفاسدة وإلحادية، فهي تعتمد على أفلام تستورد من خارج البلاد لتغير من ثقافتنا. الحفلات الغنائية لا خير فيها، فالترفيه بالأغاني ليل نهار، وفتح صالات السينما في كل الأوقات، هو مدعاة لاختلاط الجنسين”.

 

 

هذا ليس مقتطفاً من محاضر جلسات محاكم التفتيش ولا جزء من فتاوى ابن تيمية ولا هو من أرشيف إسامة بن لادن ولا حتى من مدونات داعش، إنّه بيان رسمي “طازا بنار الفرن” منشور على موقع رئيس هيئة كبار العلماء المشار إليه في الخبر المقتبس عن شبكة سي ان ان العربية.

 

 

عدم صدور مثل هذا البيان كان سيشكل مفاجأةً خصوصاً مع توجه “هيئة الترفيه” في المملكة إلى دراسة ترخيص إقامة الحفلات الغنائية وفتح دور عرض سينمائي هناك.

 

 

لا يستدعي المقام إجترار النصوص والقصص ذات الدلالة الشرعية ليس فقط على تحريم بل وازدراء الغناء والموسيقى والتمثيل والتصوير والرسم والنحت وسائر الفنون التي تهذب النفس وتعمق الفكر، إذ تقطع الروايات والأخبار بأنّ السلف هكذا نظروا إلى أشكال الإبداع المختلفة التي من شأنهاالرقي بالوجدان والسمو بالإنسان، حيث أنهم لم يرو فيها أكثر من “مزامير شيطان... وانصراف عن ذكر الرحمن... وجرفٍ هارٍ ينهار بالمبدعين والفنّانين في النيران”،وهكاذ ينسج هذا البيان عباراته على منوالهم ويُسَطِّر فتواه على حواشي أقوالهم.

في الوقت الذي ترى فيه الدول التي تحترم إنسانية شعوبها في الفنون والإبداع تعبيراً عن هويتها الجَمعِيّة والجَماعِيّة، لا يرى  هذا البيان الأصولي العدواني في أشكال الإإبداع أكثر من كونها: "مجون وفُتُون، وثنيات وشركيات، فساد وإلحاد، خلاعة ومياعة، رِجس ونَجَس...".

 

 

 

ثمة نقطتان في هذا البيان تستحقان التوقف عندهما وتحليل دلالتهما، الأولى هي الأوصاف التي أضفاها البيان على الأفلام التي سوف يتم عرضها في دور السينما التي لم تظهر للوجودبعد، إذ هي كما جاء في البيان "خليعة وماجنة وفاسدة وإلحادية"! هل شاهدها هؤلاء حتى يستخلصوا هذا التوصيف؟ بالطبع لا فهي من "المحرمات" التي لا يجوز اقترافها من وجهة نظرهم، إذن هل أخبرهم أحد بمضامينها قبل أن يتم اختيارها وطرحها في دور العرض التي لم تنشأ بعد؟ كيف يتأتى لهيئة تحدد للأمة الإسلامية طريقها إلى الجنّة ومهربها من النار أن تصدر أحكاماً مطلقةً على أشياء لم تعاينها بل لم تعلم شيءً عن محتواها؟

 

 

 

يستشعر القارئ للبيان بعباراته المُقَعَّرة غبار القرون الأولى التي أسست للحطّ من قيمة الحياة وكل ما يساهم في تجميلها والإعلاء من قيمتها ومحبتها، وجعلها ثمناً بخساً للنجاة  بعد الفَناء وما سيليه من ضربٍ بالمقامع وفيحٍ من جهنّم في القبر ثم شواء الجلود وشرب الحميم والصراخ من أجل شربة ماء. وإذا كان لهذا النهج المتزمّت بواعثه السياسية والاجتماعية وربما الشخصية؛ وقت ظهوره؛ التي استدعت ترويض البيئة المحيطة بمختلف عناصرها البشرية والحسّية من خلال حصر الإلهام والقيم الأخلاقية في مصدر واحد يحتكرها ويحدد مضامينها تبعاً لما تقتضيه المصلحة،فإنّ هذا النهج اليوم لا يبدو حتى في مفرداته مما يمكن الإستماع إليه والتعايش مع أتباعه.

 

 

 

من جهة أخرى، فإنّ ما يسترعي الانتباه في هذا البيان تأكيده على الخوف المرضي من الاختلاط بين الذكور والإناث، هذه الفوبيا الجنسية مردّها تحقير العلاقة بين الرجل والمرأة وجعلها منحصرةً في الجنس، وليت هذه العلاقة حتى في ضيق أفقها الجنسي متكافأة، بل هي علاقة تترجم فوقية الرجل و"دونية" المرأة التي تجسّد الفتنة وتشكّل النسبة الأعلى من سكان جهنم، كيف لا وهي "غنيمة الحَرَب ومَحَل الهجران والضَرَب وسبب الفتنة والكَرَب".

 

 

في الوقت الذي يؤكد فيه علماء الاجتماع والتربويون على خطورة الفصل بين الجنسين في المدارس والمرافق العامة والآثار السلوكية الاجتماعية الخطرة المترتّبة على هذا المسلك الانعزالي، لا يزال مشايخ هذه الأمة يخرجون من رؤوس أنوفهم عباراتهم العابرة للقرون بمعانيها ولفظها وغُنَّتِها: "الاختلَاَاَاَاَط والعياذُ بالله من المفاسد الكُبُرَى التي إِبتُليَت بها هذه الأُمّة، والله المُستَعَن، فالحَذَر الحَذَر".

من هنا يبدأ التطرّف خطاباً ليتبلور عقيدةً فينعكس مسلكاً فيُتَرجَم إرهاباً وخراباً يحصد الأخضر ولا يذر اليابس.

 

 

من يرى أنّ الحياة استثناء، ومحطةٌ لانتظار الفَناء، ومن يرى الإبداع والفنون، مجرد “خلاعة ومجون”، ومن لا يرى في المرأة سوى الجماع والدورة، وصوتها العورة، ومن يرى الرجولة في الفحولة، وأنّ الكمال مقصورٌ على الرجال...؛ فأنّى له أن يدعي أنّ مذهبه مرآة الفِطرَة والسيرة العَطِرَة؟

 

 

فلتُرَدِّدو سَجَع موتاكم الكارهين للحياة، وتَعَبَّدو بما سَطَّروه لكم في صحائف الوفاة.