يا صاحبي، إنّي حزين!
ترك العربيّ خيمته في البادية، وترك بيت اللّبن في القرية أيضاً، وانتقل إلى المدينة، وسواء أكان ذلك الانتقال تطوّراً تاريخيّاً، أم اقتصاديّاً، أم فرضته مرحلة الاستعمار، وما بعدها، فإنّه يعدّ مغامرة معقّدة، إذ لا يقتصر هذا الانتقال على تغيير المكان، بل سيترافق مع تحوّل واضح في الوعي، ولعلّ هذا التحوّل من أصعب التحوّلات وأعقدها، وينتج عنه حالة اغتراب عنيفة غالباً.
إذا ما عدنا إلى تاريخ العرب القديم، فسنجدهم حينما استقرّوا في مدن من مثل دمشق وبغداد، عبّروا عن تحوّلات الوعي البدويّ إلى المدينيّ، عبر ثيمة الوعي الجماليّ، ولعلّ قصّة الشاعر عليّ بن الجهم مع الخليفة المتوكّل معروفة في هذا الإطار، لقد قدم بن الجهم من البادية، وأُدخل على الخليفة في بغداد ليمدحه، فقال:
أنت كالكلب في حفاظك للودّ.. وكالتيس في قراع الخطوبِ
فاستعدّ الحرس لقتله، لكنّ الخليفة كان على معرفة بأنّ جماليّات النسق البدويّ تختلف عن جماليّات النسق المدينيّ وكذلك المعايير، فطلب أن يُمنح الشاعر فرصة العيش في بغداد، والتعرّف إلى تفاصيلها، وبعد أشهر دخل إلى الخليفة فمدحه بنصّ صار من عيون الشعر العربيّ إذ قال:
عيونُ المها بين الرصافة والجسرِ.. جلبنَ الهوى من حيث أدري ولا أدري
أعدنَ لي الشـوق القديـم ولـم أكـن.. سلوتُ، ولكـن زدن جـمراً عـلـى جمـرِ
وما ذلك التغيّر في المنطوق سوى تغيّر في الوعي، والوعيّ الجماليّ جزء منه.
أنبنت المدينة العربيّة ما بعد الاستعماريّة منذ القرن التاسع عشر، فقد أراد الخديوي إسماعيل أن يجعل القاهرة الحديثة قطعة من أوروبة، وترافق مشروع المدينة مع مشروع الحداثة، الذي جاء بديلاً للنهضة، ومنذ ذلك الحين تقرّرت الهجنة على الثقافة العربيّة، بنموذج المدينة الحديثة، التي هي تجمّع بشريّ ذو حراك اجتماعيّ سكّانيّ مستمرّ، يفرض تعدّد الثقافات، والانتماءات، وأنماط العيش، التي ستنضوي كلّها تحت نمط ثقافة المدينة، ومن الطبيعيّ أنّ تشكّل المدينة نسقاً ثقافيّاً مغايراً في منظومته القيميّة، للأنساق الأخرى البدويّة، والريفيّة، ونصف الحضريّة، وهذه المغايرة لا تنطوي على تفاضل، إذ لا تفاضل في الأنساق، إنّها محض اختلاف، لكن لا يمكن المزاوجة بين معايير الأنساق المختلفة، إلاّ إذا قبلنا بالفصام.
لقد عبّر الشاعر الحداثيّ أيضاً عن الاغتراب جرّاء تحوّلات الوعي الذي تفرضه المدينة، وليس أبلغ في ذلك من صلاح عبد الصبور، إذ يقول:
يا صاحبي، إني حزين
طلع الصباح، فما ابتسمتُ، ولم ينر وجهي الصباح
وخرجت من جوف المدينة أطلب الرزق المتاح
وغمست في ماء القناعة خبز أيّامي الكفاف
ورجعت بعد الظهر في جيبي قروشْ
فشربتُ شاياً في الطريق
ورتقت نعلي
ولعبت بالنرد الموزّع بين كفي والصديق
...
حزن تمدد في المدينة
كاللّص في جوف السكينة
كالأفعوان بلا فحيح
الحزن قد قهر القلاع جميعها وسبى الكنوز
وأقام حكاماً طغاة
تعني المدنيّة وعي الحياة الجديدة، والقوانين الحديثة، والعلاقات التي قد تكون منبتّة تماماً عن القديمة، إنّها رؤية حديثة للوجود، فالحاضر والمستقبل لهما شروطهما الخاصّة، وقوانينهما الخاصّة، والمدنيّة في هذا المستوى، ضدّ السلفيّة حينما تذهب إلى أنّ الماضي يجب أن يبسط ظلّه على الحاضر.
تحتاج المدينة إلى أن يملك الأفراد في تعاملاتهم ذاكرة نقيّة، حتّى تتمكّن من صنع ذاكرتها الثقافيّة الخاصّة، فالذاكرة الثقافيّة هي التي تحدّد، بصورة أو بأخرى، مستقبل المجموع، إذ تحدّد مسألة الآخريّة، ودرجة حدّتها أو عنفها، وإذا كانت الذاكرة مشحونة سلباً، لن يتمكّن الأفراد أوالجماعات من العيش المشترك، حينها ستقصيهم ذاكرتهم عن المكان الذي هو للجميع، ففي المدينة إن لم تكن مدينيّاً ستعيش حالة فصام، وربّما رهاب، أو تطرّف، وقديماً قالوا: "إذا كنت في روما، افعل كما يفعل الرومان"، وما ذلك سوى حثّ على وعي العلاقات المدينيّة.
لا يمكنك في المدينة أن تنام في العراء، تحت سماء مبرقشة بالنجوم، لكن يمكنك أن تفعل ذلك في الصحراء، وتمثّل هذه الرغبة بحدّ ذاتها نزوعاً رومانسيّاً، والرومانسيّة حالة حنين إلى ما قبل المدينة، بسبب المدينة أيضاً، كما لا يمكنك أن تذرع الطريق بالطول والعرض, فممشاك محدّد بحدود القانون، إذ قد تصدمك سيّارة، أو تعيق مسير الآخرين، وقس على ذلك الحقوق، والواجبات، والعقوبات، ومظاهر الفرح والحزن..
في مدننا ماء ينسكب من الصنابير، وأباجورات تفتح بكبسة زرّ، ومراكز تجاريّة كوزموبوليتانيّة، وطرق غاية في الحداثة، ومكاتب لمنظّمات دوليّة، ومؤسسات للمجتمع المدنيّ، لكنّ ذلك كلّه بلا وعي مدينيّ، فمازال وعينا ثأريّاً، ومازالت الردّة تقتلنا كلّ يوم، والآخر منّا يحمل في الداخل ضدّه كما يقول "مظفّر النوّاب". لقد أفلت المدينة العربيّة بسبب سياسات الترييف، و"البدونة"، التي تمّ تشجيعها، لتسييرنا عكس حركة التاريخ، وإذا ما كانت دول وحكومات مركزيّة تهمّش الوعي المدينيّ لصالح النكوص، فليس من قبيل المفاجأة أن يتصرّف الآخر المهمّش بوعي همجيّ، يسبق أقدم الأشكال الاجتماعيّة المعياريّة التي عرفتها البشريّة.
- د. شهلا العجيلي: روائيّة، وأكاديميّة، أستاذة الأدب العربيّ الحديث في الجامعة الأميركيّة في مادبا. لها في الرواية "عين الهرّ" الحائزة على جائزة الدولة التشجيعية 2009، و"سجّاد عجميّ".