وهم إصلاح الخطاب الديني

الرابط المختصر

عندما تطلب من رجال الدين إصلاح أو تجديد الخطاب الديني فكأنك تطلب منهم التنازل عن سلطتهم علي وجدان وأفئدة وعقول وضمائر المصريين ، كأنك تطلب منهم التنازل عن قدسيتهم أو عن كونهم جنسا أعلا من جنس البشر ، كأنك تطلب منهم ترك المجتمع حرا يختار مصيره بنفسه ، كأنك تطلب منهم التوقف عن حشو عقل الأمة بالخرافات التي تبقيه خارج مسيرة الحضارة الإنسانية بشكل دائم .



عندما تطلب من رجال الدين إعادة النظر في خطابهم الذي يملأ أرواح الناس بالخوف من النار فكأنك تطلب منهم التوقف عن ممارسة دور النيابة عن الله في إدخال هذا إلي الجنة وقذف هذا إلي الجحيم .



خطابهم هذا هو الذي يحقق لهم الأرباح الطائلة ، وهو الذي يمنحهم الحق في توجيه المجتمع إلي الوجهة التي يريدون ، وهو الذي يحقق لهم متعة التحكم في حياة الناس ، شكل ملابسهم ، كيف يدخلون إلي دورات المياه ، كيف يأكلون أو يشربون ، من الذي يحبونه ومن الذي لابد أن يكرهوه ، كيف يتزوجون ، وكيف يعيشون ، هذا الخطاب هو القانون الذي يلغون به كل قانون ، وهو الدستور الذي يعطل كل دستور ، وهو السلاح الذي يحاربون به الفن والعلم والثقافة وأي نشاط يؤدي إلي إعمال العقل.



كيف تطلب منهم أن يحرروا عقل الأمة من قبضتهم ، كيف تطلب منهم أن يمنحوا الناس فرصة إدراك أنهم مسئولون عن أنفسهم وعن أفعالهم وأنهم ليسوا في حاجة إلي وسيط بينهم وبين الله؟؟!!.

الخطاب الديني بالكيفية التي هو عليها الآن يمنح رجال الدين السلطة فوق كل سلطة ، يمنحهم فرصة التحكم حتي في إرادة الشعب ، لقد وضعوا بهذا الخطاب كتلة خوف هائلة في نفوس الناس من المآل في الآخرة فأسلموهم إرادتهم وحريتهم ومصائرهم ولم يعودوا يملكون سوي الخواء والخوف والانقياد الأعمي.



بهذا الخطاب لم يلغوا التاريخ فقط ، لم ينفوا العقل فقط ، وإنما ألغوا من قواميسنا كل الأسئلة التي توحي بأننا أحياء ، فلم نعد نسأل هل هذا الشيء قانوني أم مخالف للقانون ، هل هذا الشيء إنساني أم غير إنساني ، هل هذا الشيء علمي أم عشوائي ، هل هذا الشيء عقلاني أم منافي للعقل ، صرنا فقط نسأل أسئلة من فقدوا كل أمل في الحياة : هل هذا الشيء حرام أم حلال ، هل هذا الشيء يجوز أم لا يجوز ، هل هذا الشيء به فتوي أو لابد من استفتاء شيخنا فيه.

لن يمنحوك أبدا ما تريد ، ثم إنهم لو أرادوا فسوف يدفعوننا أكثر إلي الغوص في أوحال الماضي وظلماته ، ولك أن تتذكر أن ماحدث منذ بداية السبعينيات ومازال مستمرا حتي الآن كانوا يسمونه الصحوة وتجديد روح الدين ، إذ استخرجوا لنا أظلم ما في التراث وعبأوا به ضمائرنا حتي تحول الدين من علاقة خاصة بيننا وبين الله إلي علاقة عبودية بيننا وبينهم بوصفهم وسطاء أو وكلاء عن الله.



لقد قال أحد أقطاب هذه الصحوة في إحدي خطبه : إذا تعارض النص القرآني مع السنة فالسنة أولي ، أي أن السنة التي كتبها بشر مثلنا مقدمة علي قول الله ، ولك أن تتذكر موقف من تطلب منهم إصلاح الخطاب الديني من الشيخ علي عبد الرازق عندما استعمل عقله في التعامل مع النص القرآني في كتابه العظيم ( الاسلام وأصول الحكم ) ، لك أن تتذكر موقفهم من طه حسين عندما طالب بإعادة النظر في التراث البشري ، ثم موقفهم من فرج فوده ، أو من نصر حامد أبو زيد ، أو من كل من حاول إيقاظ عقل الأمة وتحريره من الخرافة.



أُترك لهم خطابهم ، ولا تظل تلح في طلب لا يتفق حتي مع قدراتهم ، فلا دراية لهم بعلوم النقد ، ولا بالفلسفة ، ولا بعلم الاجتماع ، ولا معرفة لهم بدراسات علم النفس ، وهم منقطعون تماما عن قوانين الحركة والتغير والتطور ، بل منقطعون تماما عن كافة القوانين العلمية التي تُحرك الحضارة الإنسانية إلي الأمام دائما والتي حققت هذا التطور العلمي والإنساني المذهل.



وفق ما سبق ففي ظني أن مطلب إصلاح الخطاب الديني قد صار مطلبا مزيفا سوف نموت وتموت أجيال أخري قادمة دون أن يتحقق منه شيئا ، وإذا كنّا جادين في الخروج من هذا الوضع التاريخي والحضاري البائس والمهلك فلابد أن يكون المطلب هو تحرير العقل ، وهذا الأمر يتطلب جرأة وشجاعة تاريخية ، إذ لابد أولا من إلغاء هذا الدستور الحالي الذي يتضمن أنصبة لمؤسسات معينة ويصنع لها سلطات ليس لها الحق فيها علي الاطلاق ، ثم كتابة دستور جديد لا سلطة فيه إلا للشعب ولا فرصة فيه لأي مؤسسة دينية أو غير دينية للإفتئات علي القانون أو التدخل في صياغة التشريعات بوصفها سلطة.



لابد من صياغة نصوص تطلق حرية التفكير والإبداع والنقد بحيث يمكن للمفكرين والمثقفين مناقشة التراث بحرية دون أن تتسلط عليهم قوانين الحسبة والازدراء وكافة القوانين التي صادرت عقل الأمة ومنحت فئات معينة حق مطاردة المفكرين والمبدعين.



حرية الفكر والإبداع هي التي يمكنها أن تصلح كل خطاب وكل انحراف ، وهي الكفيلة بتحقيق الانطلاق الذي ننشده نحو نحو المشاركة الفعالة في صنع الحضارة الإنسانية.

 الحوار المتمدن