تتراءى أمامي خلاصة قدمها المؤرخ والباحث العراقي الراحل علي الوردي في كتابه الشهير "وعاظ السلاطين"، في سياق تأريخه فترة بناء الدولة العراقية –الذي يشبه قيام غيرها من الدول العربية- بأنه "بعدما كانت الطائفية نزاعاً مذهبياً أصبحت اليوم نزاعاً على الوظائف"، ليصل إلى قوله إن "نزعة التدين ضعفت في أهل العراق، وبقيت فيهم الطائفية: حيث صاروا لادينيين وطائفيين في آن واحد".
وكان يؤمن بأن الطائفية نزاع قبلي على الحكْم، وهو ما قاده إلى استنتاج آخر لا يقل أهمية عن سابقه، إذ يتابع تحليله لـ"دولة الوظائف"، التي خلقت تنافساً غير متكافئ بين أبنائها، وأخفت الصراع الطائفي في المجتمع بعض الوقت –وإن حاول كثيرون إنكاره لدوافع سياسية وانحيازات غير موضوعية- فيرى أن هذا الواقع أنشأ أدعياء الحداثة من "الوعاظ المتفرنجين"، بديلاً عن وعاظ الدين، وهم يبذلون خدماتهم قربى للسلاطين.
أتجول برفقة الوردي، الذي تمرّ بعد أيام الذكرى الثانية والعشرين لرحيله، وأستعيد تشاؤمه عقب حرب الخليج 91، وسخطه على الدولة العراقية، التي لم يغادرها حتى فارق الحياة، كونها المسؤولة عبر أخطائها المتراكمة عن التصرفات "الغوغائية" لمواطنيها المتمردين، آنذاك، وحذّر حينها من تأسيس "شرطة الأخلاق" التي اعتبرها ردّة إلى الوراء من قبل نظامٍ يدعي المدنية.
"شرطة الأخلاق"، وما أتبعها من حملات إيمانية ضد محال الخمر وبيوت اللهو، في تسعينيات القرن الماضي، في العراق، كلها كانت أفكاراً سلطوية في مواجهة الهزيمة، لذلك لا غرابة أن هذه المظاهر تواصلت بعد الاحتلال الأمريكي لبغداد عام 2003 على يد ميليشيات الحكْم الجديد، بتسميات متشابهة وأخرى مختلفة، وبالطبع لم تمحَ آثار الهزائم التي أنكرتها كلا السلطتين: البائدة والمستحدثة!
الخوف من الهزيمة، يتراكم لدينا ولا يتبدد، ونحن اليوم نقف على أعتاب حرب دينية ستستمر عقوداً عدة، لا محالة، بين عقليين غيبيين يتعلق كل واحد منهما بشكليات دينية لا فائدة منها، ويمكن رصدها بوضوح في رمضان، مثلاً، حيث تحاول جميع الأنظمة العربية منافسة داعش في إظهار حرصها على الإسلام وإهدار طاقات شعوبها وتفكيرهم في الدفاع عن شعارات دينية ومذهبية واهية والتطرف من أجلها، بدلاً من اتخاذها خطوات جادة نحو تحقيق العدالة الاجتماعية.
لزِم علي الوردي أن يطول عمره قليلاً ليرى كيف انقسم "الوعاظ المتفرنجون" بين المحاور المتقاتلة، في منطقتنا، وأنهم استعاروا خِطاب وعاظ الدين وأدواته في الانتصار لمعسكرهم، ولم يعودوا يرون تطور المجتمع بمعزل عن تركيبته الطائفية، وباتوا يسوغون استغلال الدين وتوظيفه في بزنس محاربة الإرهاب، وتكشفوا عن عقل مستقيل، وعاجز عن التغيير، ويتعامى عن نقد أسباب الأزمة بالثرثرة حول أعراضها، والسعي لتبرئة سلطاتهم من خطاياها التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه اليوم.
وربما تجدر الإشارة، هنا، إلى قصة وردت في كتابه "وعاظ السلاطين"، حيث "يُحكى أن نظام الملك وزير السلجوقيين في العراق كان ينفق أموالاً طائلة على المساجد والمدراس والتكايا، فعاتبه سيده ملك شاه على ذلك، فأجاب الملك بالجواب التالي: (أنت مشتغل بلذاتك ومنهمك في شهواتك وأكثر ما يصعد إلى الله تعالى معاصيك دون طاعتك وجيوشك الذين تعدهم للنوائب... مستغرقون في المعاصي والخمور والملاهي والمزمار والطنبور، وأنا أقمت لك جيشاً يُسمى "جيش الليل"... إذا نامت جيوشك ليلاً قامت جيوش الليل على أقدامهم صفوفاً بين يدي ربهم فأسالوا دموعهم وأطلقوا ألسنتهم ومدوا إلى الله أكفهم للدعاء لك ولجيوشك، فأنت وجيوشك في خفارتهم تعيشون، وبدعائهم تبيتون، وببركاتهم تمطرون وترزقون).
لا يزال نظام الملك ذو نفوذ وحظوة في "دول الوظائف والطوائف"، فالعربي متمسك بسلطةٍ تعني له الانشغال باللذات، وفي الوقت نفسه يعدّ جيوش الليل لإخفاء فساده باسم الدين!
محمود منير: كاتب وصحافي. محرر “تكوين” في عمان نت.