وطنية مستوحاة من "البورنو"

وطنية مستوحاة من "البورنو"
الرابط المختصر

ثاروا لمرأى ابنتهم ميا خليفة بطلة أفلامٍ إباحية، متناسين مديونية لبنان التي تجاوزت 60 مليار دولار، وعجزهم عن انتخاب رئيس للجمهورية بسبب اختلاف الأوصياء الدوليين على تسميته، أو حتى خطأهم "التاريخي" بتصميم علَم بلدهم في مخالفةٍ دستورية صريحةٍ لأول دستور عربي يثبّت المحاصصة الطائفية.

لبنانيون لا يحفظون نشيدهم الوطني – يعدّ هذا سمةً للتباهي بينهم- صُدموا بمشاهدة ذراع ميا موشومة بمقطع من النشيد يقول "كلنا للوطن للعُلى للعلَم"!

تحسست رأسي في أثناء متابعتي الحدث اللبناني، وعبثاً حاولت تجاهل العلَم الأردني المقلوب فوق بعض المؤسسات الوطنية، أو كما رفعه وفدنا إلى موسم الأولمبياد الفائت، وبأن كلمات السلام الملكي لا تحوي مفردة واحدةً تمجّد الوطن بأرضه وشعبه.

نفسي الأمّارة بالسوء تلّح علي بأسئلة غريبة عن معنى الوطن، حين يُبرز لك جوجل Google ميا خليفة الخيار الأول بمجرد كتابة حرفي الميم والياء، وتصدّر أفلامها في الموقع الإباحي الذي يعرضها بمجرد ذيوع الخبر بين أبناء جلدتها. ولا تتوقف الأسئلة عند شريط لها ترتدي خلاله الحجاب في استثمار واضح لثقافة وطنها الأم وعاداته جذباً لزوّار –أغلبهم من منطقتنا-يستبطنون نظرة الغرب إليهم؛ إذ يغويهم الجنس لدى الشعوب المحافظة أو البدائية.

الجدل حول الوطن في شرقنا يتميز عن غيره من الثقافات بأنّ لا محددات له، ولا جهة تحتكره بسبب انفراط عقد المجتمعات على الأرض وفي العقل الجمعي العربي أيضاَ، وكلً طرفٍ يكفّر أو يخوّن الطرف الآخر كلما طال النقاش شكْل الدولة ومعنى الوطن، وما أن أصبح لدينا أول ممثلة إباحية حتى شاركتنا أزمتنا مخاطبةً مواطنيها: "أليس هناك ما يشغل الشرق الأوسط إلى جانب قصتي، ماذا عن انتخاب رئيس (لبناني)؟ أو مواجهة "داعش"؟"

انفتاح حدود الأوطان وتكسرّها ليس محصوراً بميا خليفة، التي تحمل الجنسية الأمريكية، ولم تتخل عن وطنها وأمنياتها له بـ"العُلى"، حيث ترجمه آلاف الشباب –على طريقتهم الخاصة- قدِموا من 90 بلداً، وغيّر بعضهم دينه وحياته كلّها عبر الالتحاق بـ"داعش"، التي استعادت نموذجاً استثنائياً لـ"البورنو" بتأويلها نصوصاً دينيةً لتقرّ السبي وجهاد النكاح وتوزيعها "كتالوجاً" يتضمن تعليمات تجيز الجنس مع السبايا، لكن من دون كاميرات تصوير!

العلاقة بين الوطن و"البورنو" ليست طارئة لدينا، وربما تكفي مراجعة قرنٍ واحدٍ مضى للتعرف على مدى هشاشتنا الوطنية منذ القبول بـ"استقلال" فصّلته عائلات حاكمة -في جميع الدول العربية- لم تغادر منطق العشيرة بادّعاء حرصها على سمعتها وشرف أبنائها وبناتها لتندفع نحو المساومة عليهما حين تُلمّ بها أول ضائفة تفضح إفلاسها التام.

ثم راجت كذبة بناء الدولة والدستور طيلة عقود، وسرعان ما انكشفت مع فرْض الخصخصة فانفرطت دُوَلنا عن مؤسسة وحيدة تتمثل بالأجهزة الأمنية التي تحالفت مع الشركات الجديدة لتحلّ لغة السوق وسياسات العرض والطلب مكان الوطن.

الخديعة الكبرى كرّستها الانفجارات الاجتماعية الأخيرة، التي يحلو للبعض تسميتها ربيعاً، فشهدنا انهياراً كاملاً لأوطان واندلاع حروب "قبَلية" في أكثر من بلد عربي، في الوقت الذي تتجهز به البلدان الباقية للانخراط في حربٍ تتسع رغم تفاؤل كثيرين بتطويقها لأسباب ميتافيزيقية أو تتعلق بإرادات خارجية، وهي معجزة لا تتصورها إلاّ مخيلة جامحة بشبقها.

ما الذي يعنيه الوطن لهذه المجاميع البشرية ما بين المحيط والخليج؟ لا دلالات متحققة لكل المجازات التي ستُقدم أجوبة عن سؤالٍ يفقهه فقط سماسرةٌ يتاجرون بالدين، على تنوّع حركاته السياسية المتعددة، أو بشعارات وطنية وقومية ترفعها أنظمة متهالكة، وصولاً لأولئك الذي أداروا تسوية "خلاقة"، في تونس، بين سلطة بائدة وحركة إسلامية ماضوية.

باسم الوطن يتلاعب هؤلاء جميعاً بغرائزنا التي لا تنطفئ حتى وهُم يسرقون ثرواتنا ويهينون كراماتنا، وتتضاعف نشوتنا إذا ما تقسّمنا قبائل وطوائف، بينما كانت ميا خليفة واضحةً ومتصالحةً مع نفسها عندما تعرّت وقدّمت 500 فيلماً إباحياً؛ الإثارة مقابل المال والشهرة من دون مجازات واستعارات وشعارات!

 

  • محمود منير: كاتب وصحافي. محرر “تكوين” في عمان نت.