نساء، ومدن، وقطارات
في بلادٍ لم تعد تصلها القطارات بسب أعمال العنف المتزايدة، يصير الكلام عن المرأة مثل النظر إلى صورة قديمة على جدار، ثمّ الإشاحة عنها. صورة نرغب بشدّة في انتزاعها، لكنّنا نعرض كي لا يبدو للعيان الحائط المشوّه خلفها، الباهت، والمتسخ، والمتشقق، والموسوم بمكان مسمار التعليق، وعلى الرغم من ذلك احتفل العالم في الثامن من آذار بيوم المرأة، إنّه العالم ذاته الذي يتفنّن في ازدرائها.
قبل حوالي عشرة آلاف سنة من ميلاد المسيح، امتلكت المرأة كرامتها، ومسؤوليّتها أكثر بكثير ممّا هي عليه اليوم في الولايات، والإمارات، والدول، والكيانات الناشئة، والأخرى قيد النشوء.
لقد قُدّست ساواسفاتي في الهند، بوصفها ربّة الكتابة، ومخترعة الأبجديّة الأولى، وقدّست سردوين الكلتيّة، ربّة الثقافة والمعرفة في إيرلندا قبل المسيحيّة، وكذلك قدّست بريجيت الإلهة الكبرى للغة. وفي بلاد الرافدين قدست ننليل الربة، التي قدمت لشعبها المعلومات الأولى عن طرائق الزراعة والحصاد، وقدّس السومريّون الإلهة نيدادا، التي اخترعت الكتابة على الألواح الطينيّة، وكانت عشتار سيدة الرؤيا ونبية الشعب، في مدينة نمرود التي دمّرت منذ أيّام على أيدي متطرّفين إسلاميّين. ومثّلما كانت ديمتر الإغريقية إلهة الثقافة في قومها، كانت ماعت المصرية تمثّل النظام الدقيق، والإيقاع، وحقيقة الكون.
أمّا العرب فقدّسوا اللات، والعزى، ومناة حتّى عهد قريب من النبوّة، والذي أحبّ أن أدرجه دليلاً على خصوبة فكرهم، وانفتاحهم على الثقافات الأخرى، جعلهم يتقبّلون فيما بعد تغييراً جذريّاً من مثل الدعوة التوحيديّة.
لا يعني هذا السرد التاريخيّ لمنزلة الربّات حنيناً إلى الماضي، أو تصديقاً لرواياته، لكنّه في أقلّ اعتبار إشارة دالّة على تفكير مجموعات بشريّة، وعلى تفسيرها لعلاقاتها بالكون، وذلك لا يجعلنا نزدريها أو نمجّدها، لأنّ مقارنة الثقافات عمليّة غير تفاضليّة، فالثقافات نظم حياة، سواء أكانت للبدائيين أم للمتمدّنين. إنّ تلك الإشارات الدالّة تفصح عن أنّ الجميع، رجالاً ونساء، امتلكوا الوقت ليفكّروا بذواتهم، وبالآخرين، وليتأمّلوا، وليقوموا بعمليّة النقد، وقد أسهمت الحريّة في ذلك بشكل كبير، والتي تأتّت من ندرة النصوص، وضعف سطوتها، فكان الخلاص ممّا نعانيه نحن من تنطّع المفسّرين من جهة، ومن الاضطراب بين الإلهيّ والوضعيّ من جهة أخرى.
لن نتحدّث هنا عن بغايا الطقوس، ولا عن عاشقات المعابد، لأنّ حضورهنّ سيبدو مقتطعاً من سياقه، الذي هو منظومة فكريّة متكاملة، وزمنيّة، ولن أقترف تحويل المقدّس إلى مدنّس، إذ أعرف أنّنا مولعون بالاجتزاء، والمحاكمة على أساسه، وأنّ نظرتنا إلى العالم غير شاملة، مثل أيديولوجياتنا، وحداثتنا، وهويتنا..
إنّ احتفالنا بيوم المرأة العالميّ يشبه احتفالنا بيوم المسرح مثلاً، إذ لا نؤمن بالتعدد، ولا بالدراما، ولا بالحوار، وصراعاتنا عنيفة ودمويّة، وليست صراعات آراء، ومع ذلك نتمسّك بالمسرح!
قد يقوّض العالم أشياءه، وقد يقوّض الناس في أرجائه آراءهم، ويفعلون ذلك بفرح، بسبب صلابة الماضي، أمّا نحن فنقوّضها بكره، وبانتقام، وبتوجّس من بعضنا البعض، إذ نفتقد الأمان الدينيّ، والدعم الأخلاقي والاستقرار السياسيّ، فهل فكّر أحد بالمرأة بوصفها فكرة! وهل فكّر أحد بالسيّدة مريم بوصفها امرأة، لا والدة للمسيح، وهل فكّر أيّ منّا، رجلاً أو امرأة، بأمّه، بفرديّة، أي بمعزل عن كونها أمّه! إنّ هذا الضرب من التفكير تمثيل كامل للنضج، فالفرديّة نوع من تحقّق الذات، إنّها انفصالها عن الذوات الأخرى، وتحويلها الأخيرة إلى موضوعات، ومن ثمّ قدرة على نقدها، ومعرفتها، والإحساس بها، بعيداً عن الصلة البيولوجيّة النفعيّة.
حين يرى الإنسان أمّه فكرة، لن تكون غير الجمال، بوصفه قيمة مطلقة، بعيداً عن الطعام، والأمان، والأنس، وأجر العبادة، وهنا سيثبت صاحب الفكرة أنّه يحبّ، ويحترم، لأنّه سيعرف!
في يوم المرأة العالميّ خذوا فرصتكم في معرفة أمّهاتكم، أنا شخصيّاً فعلتُ ذلك قبل فوات الأوان، وبناء عليه لم تعد تهمّني القطارات التي غادرت مدناً كانت عامرة بالشغف والخيال..
لا تتأسّفوا كما أسف فرناندو بيسوا في (لا طمأنينته)، حينما سجّل اعترافاً حزيناً:
"أردتُ أن أعرف كيف أفكّر، أن أعرف كيف أحسّ: في فترة مبكّرة جدّاً توفيت أمّي، وأنا لم يتح لي التعرّف عليها"!
- د. شهلا العجيلي: روائيّة، وأكاديميّة، أستاذة الأدب العربيّ الحديث في الجامعة الأميركيّة في مادبا. لها في الرواية "عين الهرّ" الحائزة على جائزة الدولة التشجيعية 2009، و"سجّاد عجميّ".