مقاتلون محترفون ومفاوضون متفوقون.
في السادس من أكتوبر عام 73 تعرضت "إسرائيل" لهزيمة عسكرية مفاجئة، خسرت بموجبها شبه جزيرة سيناء، لكنها وعلى الفور استطاعت تحويل مجرى المعركة من خطوط الاشتباك العسكري في الميدان إلى سراديب التفاوض والتسوية، وبدأ يومها الاختراق وتحويل فكرة الصراع من ( صراع لأجل التحرير إلى صراع على الحدود) ، عندها استطاعت "إسرائيل" ان تحقق في المفاوضات ما عجزت عن إنجازه في الحرب، وكانت النتيجة الأكثر سوءً فتح باب التسوية الذي بدأ بتوقيع اتفاقية كامب ديفيد وخروج مصر من دائرة الصراع العربي الصهيوني، وعطفاً باتفاقيات اوسلو ووداي عربة وحركة التطبيع والتعاون الأمني والاقتصادي والثقافي والبيت الإبراهيمي برعاية ودعم من الإدارات الأميركية المتعاقبة.
حتى هذه اللحظة ومنذ السابع من أكتوبر 2023
لا زالت "إسرائيل" تكابر وتنكر انها خسرت الحرب، على كل المستويات المعنوية والفيزيائية، والأمنية والعسكرية والاقتصادية والاخلاقية وفي ابعادها المرحلية والإستراتيجية، رسمياً لم تعلن إسرائيل انكسارها وهزيمتها، لكن جميع الشواهد المؤشرات القادمة من قلب الساحة السياسية في تل أبيب تعبر عن حالة الصدمة المروعة التي صنعتها لحظة الفجر الأولى من صباح الطوفان، وما تبعها من فصول الخيبة والتردي والفشل.
"إسرائيل" لم تكن وحدها، إذ على الرغم من الفزعة الغربية (الأمريكية الأوروبية) المبكرة وغير المسبوقة من حيث الحشد العسكري وجنود النخبة وقوات الدلتا الأميركية وحاملات الطائرات ومستودعات الذخيرة والقدائف المدمرة ذات الأوزان الثقيلة وجميع انواع الدعم اللوجستي والتعاون الأمني والسياسي في المحافل الدولية، على الرغم من كل ذلك فقد فشلت "إسرائيل" بإمتياز ان تحقق ايا من أهدافها التي أعلنتها منذ بداية الحرب، وبالتوازي فقدت ايضاً قدرتها على تحقيق مكاسب من خلال المفاوضات وإنجاز ما عجزت عن تحقيقه بالحرب.
لو لم تكن "إسرائيل" لاوجدناها، هذا هو شعار المواجهة والمرحلة التي أعلنها الرئيس الأمريكي بايدن، من خلال محاولة صنع وميلاد جديد "لإسرائيل".
" إسرائيل" الجديدة 2023 التي ارادتها واشنطن على منوال أوكرانيا الجديدة في مواجهة واستنزاف روسيا، إذ قررت في كلا الحالتين - على الرغم من الاختلاف الموضوعي بين الحالتين - ان تكون النسخة الجديدة من"إسرائيل" في عدوانها على غزة مختلفة عما سبقها من المنازلات، من حيث قدرتها على تحمل الخسائر البشرية ( مئات الأسرى والاف القتلى)، وإمكان خوض معركة طويلة الاجل، بعد أن فقدت قدرتها على الحسم السريع.
إدارة بايدن حقنت الدولة العبرية بجميع انواع المخدرات المنشطة والمساعدة والمحفزة على القتل بجنون وارتكاب جرائم الحرب الإرهابية والابادة الجماعية للمدنيين، وراهنت هذه المرة على كسر شوكة المقاومة الفلسطينية، واستسلامها، واعادة جميع الاسري عنوة ورغما عن ارادة حماس.
ولتحقيق هذا الهدف كان التفويص والتوقيع الأميركي لنتنياهو على بياض وتامين شبكة امان في المحافل الدولية، وكان الخطاب الأميركي ان من لم يأت بالترويض لا بدّ أن ينتهي بالتقويض، ومن استعصى على التطويع فليواجه الترويع، ومن لم يكن مع أميركا و«إسرائيل» فهو إرهابي وعدوٌ للحياة والأمل والمستقبل ولا بدّ من تصفيته .
الرد "الإسرائيلي كان عنبفا وقاسيا ومدمرا، هذا صحيح، ولكن الصحيح ان غزة كانت مختلفة أيضا.
غزة وعلى الرغم من الألم والمعاناة والخذلان خرجت من بين الدمار والدموع والدم والخراب، استعصت على الترويع وتمردت على الترويض وصمدت في وجه التقويض، وقاتلت ببطولة فائقة وبروح فدائية متفوقة، اذهلت العدو واشفت صدور قومٍ مؤمنين.
الفصل الثاني من المواجهة، توقف القتال اياً كان العنوان هدنة انسانية او مفاوضات غير مباشرة وعبر وسطاء واياً كانت الأهداف تبادل الأسرى او إستراحة المحاربين فان مما لا شك فيه ان تلك الهدنة لم تكن لتتحقق الا بعد أن فشلت "إسرائيل" في تحقيق أهدافها المعلنة، وبدا يتلاشي مفعول المخدرات التي حقنتها أميركا في قلب الإدارة العبرية، واكتشفت أميركا "وإسرائيل" انهما امام كيان فلسطيني جديد، افشل كل الرهانات وحطم كل الأساطير وهشم كل النظريات والمسلمات التي كانت تدّعي بأن " إسرائيل" قوة خارقة ودولة خارجة لا تُغلب وجيشها لا يُقهر،
الفلسطيني الجديد اثبت انه (سوبر بور) في الميدان
ومحترف في التفاوض ايضاً وهذا هو الجديد،
بدا الاحتراف واضحا في إدارة الميدان وإدارة التفاوض.
وكان الهدف ان لا تذهب إنجازات الطوفان ولا تضحيات الشعب هدرا، فكل خطوة وحركة لها ثمن.
التوظيف السياسي لنتائج الحرب هو ما نشهده اليوم، وما سنراه في الايام القادمة كذلك.
فلسطيني جديد يقاتل ويفاوض لانتزاع حقوقه باحتراف ينتصر ويُملي شروطه بثقة،
وماذا بعد؟
صحيح ان قرار استئناف القتال او تمديد الهدنة بيد حكومة الاحتلال، ولكن الصحيح ايضاً ان المقاومة مستعدة لجميع الاحتمالات ويدها على الزناد، ومصرة على اشتقاق معادلات جديدة واجتراح قواعد مبتكرة لإدارة الصراع تأكيداً على ان مرحلة جديدة قد بدأت، عنوانها الرئيس ان فلسطين أرض لشعب مصرٌ على انتزاع حقوقه مهما طال الزمن وعظمت التضحيات، واما التفاصيل وهي لا تقل أهمية فتبييض السجون وكسر الحصار ووقف الانتهاكات للاقصى والمقدسات العربية، وافشال مخططات التهجير والفصل العنصري، تمهيدا لازالة الاحتلال،
زوال الاحتلال ليس تهمة ولكنه واجب وشرف،
واخيرا من راهن على "إسرائيل" فقد خسر الرهان، ومن الضروري أن يدرك الغرب بأن الحقائق الجديدة تفرض نفسها وان "إسرائيل" العاجز عن حماية نفسها هي أعجز عن رعاية المصالح الغربية، وان مصالح الشعوب الغربية ليست عند دولة الاحتلال، وان "إسرائيل" أصبحت عبئاً على من يدعمها وينحاز لها
ومن حلم بغزة ما بعد حماس فقد فشل وخرائط الشرق الأوسط الجديد لن تكون بريشة العدوان الصهيوني، وإنما بريشة المقاومة، ربما يكون هذا حلماً جميلاً، لكنه قابل للتحقيق، واقرب من اي وقت مضى.