متورّطون يعلنون انسحابهم
بات واضحاً أنّ الفقر، والتجهيل، والخوف، والاستبداد عوامل رئيسة في صناعة شخصيّة الإرهابيّ، التي تكون شخصيّة مُرهَبة قبل أن تصير مُرهِبة، إذ تخضع لإرهاب سابق جماعيّ قبل أن يصير فرديّاً، ولاشكّ في أنّ صناعة سيكولوجيّة الفرد أمر معقّد، لكنّه يسهم في تكوين سيكولوجيّة الجماعة أو الجماهير على حدّ تعبير الاشتراكيّين، وأجد نفسي دائماً أسوق المثال الذي أورده (تشومسكي) في كتابه "قراصنة وأباطرة" حول صناعة الإرهاب، حيث ينزعج الإمبراطور من حركة قرصان يجوب البحر، ويسطو على السفن، غير آبه بحرمة حدود الإمبراطوريّة، فما أن يلقى القبض عليه حتّى يسأله الإمبراطور أنْ كيف تتجرّأ على إزعاج بحري، فيجيب القرصان بثقة: لأنّني أجوب البحر وأسلب خيراته بسفينة صغيرة يسمّونني قرصاناً، وأنت تفعل الشيء ذاته لكن بأسطول ضخم، فيسمّونك إمبراطوراً!
يلخّص هذا المثال تلك الظاهرة التي دوّخت العالم، والتي ما أن تولد يصعب إيقاف تسلّلها وتوسّعها. ثمّ يسأل الناس أسئلة بسيطة يوميّة، يفرّغون فيها قلقهم وامتعاضهم، ويخلقون ضدّ بعضهم نزعة عدائيّة محليّة، بديلة لنزعة أكثر توحّشاً يعجزون عن مواجهتها، تتجلّى في بضعة أسئلة عن التعاطف: لماذا تتعاطف مع هؤلاء، ولا تتعاطف مع أولئك، لتأتي قضية الأعلام الملوّنة والشعارات التي تذكيها تكنولوجيا الاتصال، فتثبّت مفاهيم جماهيريّة وسطحيّة للانتماء. لكن من حقّ الناس أن يعبّروا عن انتماءاتهم بتلك الوسائل، ماداموا لا يحصلون على فرص أكثر جدوى لإثبات ولاءاتهم لأوطانهم أو مجتمعاتهم الصغيرة أو فرقهم المحبّبة، كالعمل، والبناء، والمساهمة في مشاريع حقيقيّة.
بالنسبة لما يتعلّق بالعاطفة، فقد يعجز إنسان من مثل الإنسان العربيّ المعاصر الذي وقع تحت استبدادين رئيسين، استبداد الجغرافيا، واستبداد التاريخ، أن يتحدّث اليوم عن التعاطف، فالرسالة التي سيوجهها له دماغه في هذه الحالة ستشبه رسالة قادمة من هاتفه الذكيّ: "لا يمكنك التقاط المزيد من الصور، لأنّ الذاكرة ممتلئة، عليك إفراغها أو تغيير الإعدادات".
يصعب تفريغ الذاكرة لأنّ هناك أولويّات للحفظ، كما أنّ تغيير الإعدادات يحتاج إلى الخضوع إلى جلسات علاج نفسيّ، قد يكون الفنّ، الذي هو حياز للقلّة، أحدها. تحت هذا الظرق انخلقت الوجوديّة، فكانت تلفيقاًلعالم سحريّ غريب يعيش فيه المرء، لكنّه عالم صادق بمستوى صدق الشخصيّة المرهفة، التي تؤمن بطموح البروليتاريا، وبحزن الأرستقراطيّة الضائعة، وتمقت في البرجوازيّة شططها في عبادة المال، وتقف إلى جانب شيوعيّة الفكر والحكمة، لا شيوعيّة الكدح والواقع، وترى الدين جوهر الأرواح السعيدة.
الوجوديّة في مظهرها انسراب من لا عقلانيّة الحروب، ومن فشل العقل، والعلم الناتج عنه، في حلّ مشاكل الإنسانيّة، بل هي احتجاج على إمعان الأسلحة الفتّاكة في عملها، وكلّما زاد تطوّر السلاح تطرّفت الوجوديّة، لكنّها في جوهرها هرب من المسؤوليّة، ومن الحلول الجماعيّة المرهقة التي نتحمّل فيها، بسبب المساواة، انحرافات الآخرين وأخطاءهم، وهذا ليس من قبيل العدل. لقد كانت الوجوديّة بديل المثقّف الأوربيّ الفرديّ عن الماركسيّة، وعن الحلول الجماعيّة كلّها، بعد الحرب العالميّة الثانية.
يعيش المثقّف العربيّ اليوم حربين، حرب العالم على كلّ من المراكز والهوامش العربيّة، وحرباً نفسيّة مع التيّارات الإديولوجيّة التي اختبرها أو حلم بها: الدينيّة، والقوميّة، والأمميّة، بطروحاتها المقيِّدة، والعلمانيّة والليبراليّة. لكن ليس كلّ مثقّف فناناً، يمكنه اللجوء إلى حالة وجوديّة! فالمثقّف الذي طرح نفسه قائداً بديلاً للزعيم السياسيّ سيواجه مشاكل جمّة حينما يكتشف أنّه كان جسراً لمعاناة الناس ولموتهم، وربّما يذهب إلى الانتحار، أو إلى محاكمة عادلة، وأقلّ شيء سيفعله هو الانكفاء، وهذا يفسّر غياب الكثيرين وانسحابهم، بعد أن كانوا نجوم تلفزيونات (الثورات العربيّة).
حينما حدث العدوان الثلاثيّ على مصر كان مثقّفون عدّة يعملون في المراكز الأوربيّة والأميركيّة، فتمّ طرد الفنّان، ومؤرّخ الفنّ رمسيس يونان من الإذاعة الفرنسيّة وترحيله من فرنسا ومعه ثلاثة زملاء أو أربعة، لأنّهم رفضوا إذاعة بيانات ومواد ضدّ مصر، كما استقال الدكتور لويس عوض من الأمم المتّحدة، وقام الدكتور ثروت عكاشة الذي كان ملحقاً عسكريّاً في باريس بمساعدة أولئك الفنّانين والمثقّفين على مواصلة أيّامهم القاسية، وكذلك فعل يوسف السباعي، بأن أسند إليهم أعمالاً كتابيّة أنتجوا فيها مدوّنات خالدة وترجمات من مثل ترجمة رمسيس يونان لـ "فنّ الأراجوز"، و"قصّة الفن الحديث". قلت لكم سابقاً إنّ الحروب التي تتشابه في تعميم الموت، تختلف في نتاجاتها الحيويّة التي تحكمها ثقافة المتقاتلين.
د. شهلا العجيلي: روائيّة، وأكاديميّة، أستاذة الأدب العربيّ الحديث في الجامعة الأميركيّة في مادبا. لها في الرواية “عين الهرّ” الحائزة على جائزة الدولة التشجيعية 2009، و”سجّاد عجميّ”، و”سماءٌ قريبة من بيتنا”.