كلمات أخيرة للأمّهات
في وضع مشابه، كانت أمّي على فراش موتها منذ ما يزيد على ثلاثين عاماً، كان ذلك في أحد مشافي دمشق، وكانت ليلة من ليالي نيسان الدافئة، والمتكشّفة سماؤها عن نجوم برّاقة.
كنّا في غرفة من سريرين، واحد لها بوصفها المريضة، والثاني لي بوصفي مرافقتها، وكان سريري مريحاً جدّاً، الأمر الذي دعاني إلى أن أكون مطمئنّة على راحة جسدها في ساعاته الأخيرة، إذ لابدّ من أن يكون فراشها مريحاً أيضاً. لكن حينما غادرتِ الغرفة محمولة إلى ثلاّجة الموتى، واندسستُ في سريرها أستجمع آخر ما تركت من رائحة الألفة، وجدته قاسياً جدّاً، فبكيتُ كثيراً لأنّها قضت ذلك الوقت فوق زنبركات تالفة، وسطح غير مستو قد آلامها، لاشكّ، في رقدتها، وأنّها أيضاً لم تكن تشكو! حين شعرت أمّي بدخولها نفق الدقائق الأخيرة أشارت إليّ أن أقترب من رأسها، لم أكن بعيدة عنه، كنت أتلو القرآن جالسة على حافّة السرير، دنوت أكثر مجاهدة ألّا أشعرها بآلم الفقد، وبجزع دخولها الحياة البرزخيّة. وضعتْ يداً واهنة على يدي الممسكة بالكتاب، فاحتضنتُ يدها بقوّة مفرطة، فتحت فمها الذي اتخذ شكل دائرة...
سألتها: ماء؟ أشارت بإصبعها أنْ (لا).
كانت تحاول أن تقول شيئاً لكنّ صوتها لم يسعفها:
آ..آ ...
أردتُ أن أساعدها على القول، أعرف أنّ أقوال اللحظات الأخيرة في غاية الأهميّة، لكن صمتُ بعد ذلك لأعطيها فرصة تقول فيها ما تريد، لتشير أو تلمّح بلا مقاطعات، فهمّت أخيراً بالكلام، وبدا أنّها استجمعت قواها...
سرب فراشات دخل من النافذة المفتوحة، وحلّق حولنا، فانجذبت عيناي نحوه. لم أعرف أنّ الفراشات تطير في الليل! حين حوّلت نظري إلى أمّي من جديد، كانت قد فارقت الحياة من غير أن تتمكّن من أن تقول شيئاً!
القضيّة الثانية التي جعلتني أعيش في أسى ليس له حلّ، بعد قضيّة آلام فرشة السرير التي تحمّلتها أمّي بصبر جميل، هي الكلام المفقود، فما الذي كانت تريد أن تقوله لي أمّي؟!
الاحتمالات حسب معرفتي بأمّي ليست كثيرة. لكن في النهاية أمّي ليست مهذارة ولا تقول سوى الأشياء الجوهريّة، وربّما ستكشف عن جانب مجهول لم تسعفها الحياة لتجرؤ على كشفه، ومازلت كلّ يوم أفكّر:
- كانت تريد أن تدعو لي، كما تفعل دائماً: الله يرضى عليكِ!
- كانت تريد أن تقول إنّها راحلة بلا عودة، وإنّها خائفة!
- كانت تريد أن توصيني بإخوتي.
- كانت تريد أن تقول إنّها تحتفظ لنا بثروة في مكان ما.
- كانت تريد أن تقول لست ابنتها الحقيقيّة، وهي ليست أمّي، وأنّهم وجدوني على باب البيت رضيعة في سلّة من القشّ.
- كانت تريد أن تقول إنّ أبي ليس أبي، وستدلّني على أبي الحقيقيّ.
- كانت تريد أن تطلب إلينا أن نتصدّق عن روحها، وألاّ نهجر قبرها، وأن نتوادّ ونتراحم...
لم يمرّ يوم منذ رحيلها حتّى هذا التاريخ، إلاّ وأسأل فيه نفسي عن الذي أرادت أن تقوله أمّي طلباً أو اعترافاً.
حين تجمّع أولادي حولي على سرير الموت الذي كان أيضاً في مستشفى لكن في ضاحية من ضواحي مدينة برلين حيث هاجرنا بعد الحرب، لم يختلف المشهد كثيراً، غير أنّهم كانوا أقلّ جلداً منّي وقتما ودّعت أمّي، على خلاف ما هو متوقّع من أولاد نشأوا في بلاد أوروبيّة وذاقوا قسوة الاغتراب واللجوء.
لم يحاولوا إخفاء حزنهم وبكائهم، ابنتي كانت تجهش بهيستيريا، والأخرى تبكي بصخب أقلّ، وولدي الكبير يقرأ القرآن ويمسح بكفّه الرطبة على رأسي. كنت حريصة بوعي شديد على ألاّ أتفوّه بكلمات أخيرة، كي أجنّب أحدهم على الأقل الأسف الذي قضيت فيه أيّامي بسبب أنّه كان لأمّي طلب أخير لم أستطع تلبيته. وعلى الرغم من انشغالي بجزع دخول عالم البرزخ لم أتمّكن من منع نفسي من مقارنة موتي بموتها. رغبة وحيدة بقيت لي من هذه الحياة، هي أن أعرف، فهممت بأن أفتح فمي، وانفتح فعلاً، فتحلّق أولادي حولي أقرب فأقرب، وكفّوا عن البكاء والتلاوة. بدأت بالقول: آ..آ.. لكنّ قبضة أمسكت بما نسمّيه حبالاً صوتيّة!
ابنتي قالت بالعربيّة: ماما، ماذا تريدين؟ ماء!
ابني قال بالألمانيّة: ربّما تشعر بالبرد، Vielleicht ist eskalt!
أريد أن أردّ لكنّني عجزت، وغادرت إلى موتي، طارت روحي عبر النافذة التي كانت مفتوحة أيضاًعلى ليل نيسان، واندسّت ابنتي في سريري تشمّ بقايا رائحتي، وسمعتهم يقولون باكين:
ماذا كانت تريد ماما أن تقول؟! وبدأت احتمالاتهم الصعبة عن كنز مدفون، وأب آخر، وأمّ حقيقيّة...
وأنا كنت فقط أريد أن أسألهم أين اختفت الفراشات التي يفترض أن ترافق روحي كما حصل مع أمّي؟!
د. شهلا العجيلي: روائيّة، وأكاديميّة، أستاذة الأدب العربيّ الحديث في الجامعة الأميركيّة في مادبا. لها في الرواية “عين الهرّ” الحائزة على جائزة الدولة التشجيعية 2009، و”سجّاد عجميّ”، و”سماءٌ قريبة من بيتنا”.