كرامات ما بعد الحداثة

كرامات ما بعد الحداثة
الرابط المختصر

 

 

 

في الأسبوع الفائت، اجتمعنا في مؤسّسة عبد الحميد شومان، لمناقشة رواية جديدة للصديق والزميل الإعلاميّ  يحيى القيسيّ، والتي وسمها بعنوان "الفردوس المحرّم"، 2016، المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر، بيروت. لست هنا في صدد تقديم قراءة للرواية، ولن أحكي حكايتها، فحكايتها ليست تقليديّة، بل إنّ النصّ لا يولي أهميّة للفكرة الحكائيّة أصلاً، ولو فعلتُ ستجدونها باهتة! ما عليّ أن أوصله هنا هو أنّ يحيى القيسيّ قد قرّر مشروعه، وحدّد ثيماته المحبّبة، فهو من الذين اتخذوا خطّهم في الكتابة بعد الحفر في موضوع معرفيّ محدّد، موضوع الميتافيزيقيا، أو الغيبيّات، وتحويل الخطاب العرفانيّ إلى خطاب أدبيّ، عبر نصوصه الثلاثة: باب الحيرة، وأبناء السماء، والفردوس المحرّم.

 

لا يتعاطى هذا النصّ مع السحر أو الشعوذة، ولا مع العرفانيّين: أهل الخطوة، والمشّائين على الماء، بل يتوخّى حال الكائن البشريّ الذي يعيش في ظلّ نماء متجاوز للعلوم التجريبيّة، وتعقّد مشروع الحداثة، وتحوّل مجتمعاته، إلى مجتمعات ذاتيّة تصنع مرجعيّاتها. لكن ثمّة خطّ بسيط ملتبس بين العلم القائم على التجربة، وبين الميتافيزيقيا القائمة على التأمّل، وما يربطهما هو الخيال. سأقول إنّني استطعت مقاربة النصّ من مدخل الدرس الاجتماعيّ الثقافيّ، إذ تقوم جماعة (ما بعد الحداثة) بتدمير منجزات الحداثة، فينقلون المجتمعات من الفعل الجماعيّ الذي طالما تمحور حول الاقتصاد والمسائل الاجتماعيّة في المجتمعات الصناعيّة، إلى مجتمع التذويت، أي بناء الذات بعيداً عن المرجعيّات المتعارف عليها، والإيطيقية أي الأخلاقيّات المختارة بعيداً عن المتعاليات السابقة الدينيّة، أو الماضويّة المتخيّلة، أو البشريّة كالأحزاب التقليدية، والتنظيمات، والشخوص التي ترمز لسلطة كليّة، والمتمثّلة لدينا بشخص الزعيم.

 

إذن، تتمحور المجتمعات الجديدة، أو مجتمعات التذويت، حول الذات ضدّ التجربة الجماعيّة للعالم، وأداتها الرئيسة هي التكنولوجيا، كما يصارع الأفراد من أجل الكرامة التي هي فكرة أخلاقيّة، مقرونة بالديمقراطيّة، والتي تقف في وجه الاحتكارات التكنولوجيّة والعلميّة. يرى أولئك التذويتيّون أنّ السلطات الكليّة تسلب البشريّ في الأفراد، لكنّ زوالها يخلق بدائل متعدّدة تحمل مشروعات تفكيكيّة للمشروعات الكليّة، وهذا التعدد يجعل الكيانات التي تقود إلى صناعة الذات إيطيقيّاً مختلفة، تتراوح بين مجموعات تدميريّة وأخرى ثوريّة بنزوعات بنّاءة، ومع ذلك يؤكّد كل بطريقته على قدرة الذات في اختيار متعالياتها وصنع تاريخها بنفسها.

 

تظهر من هذه البدائل قوى من عوالم أخرى، مجهولة بالنسبة لمعظمنا، لكن لا شيء يمنعها من أن تكون. وهي التي يرمز إليها نصّ يحيى القيسي، "الفردوس المحرّم" بالقوى الاستحواذيّة، ويقابلها أو يتضادّ معها القوى المتمرّدة.

 

هنا يحطّ بنا الجمّال يا سادة! عند هذه القوى الاستحواذيّة، المكوّنة من وسطاء روحيّين، أو أقران، قد تخلقهم الفروقات الفيزيائيّة بين المراكز الثابتة للأجسام والمراكز الوهميّة، لا أعرف بالضبط، لكنّني أشعر بالغرابة وبالخوف أحياناً،  وأبحث عن تفسير علميّ، لا سيّما حينما أتذكّر ما حصل معي حين قمت بتحضير ورقتي حول النصّ:

 

قرأت النصّ، ورسمت خريطته فنيّاً، وبقي أن أمتلك مفاتيح المداخل المعرفيّة لأضعه في سياقه التاريخيّ المناسب لثيماته المطروحة، وهو نصّ ليس بالهيّن، يقارب العلم بمستوى مقاربته الأدب، وفكّرت في أنّني أحتاج مراجعة بعض المعارف في الفيزياء، والفلسفة، والميتا فيزيقيا...

 

كان عليّ أن أذهب صباحاً لأجدّد جواز سفري. مهمّة ستأكل سحابة النهار، ولن أتمكّن من الدرس إلى ما بعد الظهر،  شيء مؤسف بالنسبة لباحث محاصر بالكتابة والوقت، عدا عن الضغوط النفسيّة القادمة من كلّ مكان! قدّمت معاملتي، وسأحتاج إلى ساعة انتظار على الأقل. في صالة الانتظار يوجد مكتبة، نعم مكتبة صغيرة، ولا بدّ من الاقتراب منها... عناوين الكتب لها علاقة بالدرس الإداريّ والقانونيّ وبعض المناسبات الاحتفاليّة الوطنيّة...، سأمضي إلى رفّ آخر، لأجد كتاباً في الفيزياء وعلاقتها بكلّ من  الميتافيزيقيا والفلسفة! كتاب فيه كلّ ما سأحتاجه عن التمثيل الكونيّ المعادل لتمثيل أيّ جسم من حيث تركيبه الفيزيائيّ، وحركته، والقوانين الخاضع لها. عنوان الكتاب "إحياء الميتافيزيقيا- روح الفيزياء وفلسفتها"، والمؤلّف هو أشرف محمّد سمحان، يحمل ماجستير في الحقوق، والنشر يعود لعام 2004، بلا دار نشر محدّدة...

 

ثلاث ساعات في القراءة وتدوين ما يهمّ، صاح خلالها موظّف الجوازات باسمي، فتجاهلت النداء. أنجزت مهمّتي، فزاد شغفي في هذا البحث، وسأسعى للحصول على الكتاب لا شكّ. سيتعلّق الموضوع من وجهة نظر البعض، بأهميّة وجود مكتبة في دائرة رسميّة! قضيّة يجب أن تكون موضع اهتمام، لكنّني غالباً أحمل كتابي في حقيبتي. من وجهة نظري يتعلّق الموضوع بقوى ما، رافقتني منذ قراءة النصّ، قوى ذاتيّة، أو غيريّة لوسطاء ينتمون إلى محفل ما، سماويّ أو أرضيّ، أزليّ أو ما بعد حداثيّ، يمتلكون ما تسمّيه الثقافة العالمة (كرامات)، أو قوى خارقة، لقد وضعوا الكتاب في طريقي، فنجزت الأشياء كلّها مثلما أردت ولم أتوقّع! إنّه عالم ما بعد الحداثة حيث نعيش على تخوم (فردوس محرّم)، إذ تباد بكبسة زرّ بلاد بأكملها من على سطح الأرض، لرغبة أحد ما  في الوصول إلى الفردوس، وتحت الأرض ثمّة عالم آخر يوصف بالسفليّ، وقد يكون هو الفردوس، لكن كلّ الذين ذهبوا إليه لم يعودوا! ويبدو أنّ ذلك الفردوس سيظلّ محرّماً إلى أن تتوصّل البشريّة إلى تسوية مع شرورها، أو تتلاشى لتصير الحياة بين لحظة الفلق العظيم ولحظة الطيّ العظيم نسياً منسيّاً، أو شعاعاً ضوئيّاً يصدر ويعود إلى النقطة ذاتها، تحت عنوان (ساعة الكون) التي لبثنا فيها.

 

د. شهلا العجيلي: روائيّة، وأكاديميّة، أستاذة الأدب العربيّ الحديث في الجامعة الأميركيّة في مادبا. لها في الرواية “عين الهرّ” الحائزة على جائزة الدولة التشجيعية 2009، و”سجّاد عجميّ”، و”سماءٌ قريبة من بيتنا”.