قبل أنْ أموتَ بحادث سير!

قبل أنْ أموتَ بحادث سير!
الرابط المختصر

الناسُ يمشون؛ إما ركابا أو سائقين أو عابري طريق. نحاولُ اختصار الوقت الذي نهدره على الإشارات الحمراء، وفي الأزمات التي تخنقُ مرورنا، أو في انتظار الحافلات التي تذهبُ بنا وتعودُ بغيرنا، أو على الرصيف الذي نخافُ أنْ نُطيلَ الإقامة عليه، مثل شجر الزينة الفائض!

..ونمشي، على عجلة من أمرنا دائما، لأنَّ العمرَ قصيرٌ، وبقيَّته تنتظرنا خلف الإشارة الخضراء، أو في مُجمَّع الحافلات الكبيرة، أو على الرصيف المقابل. ونبالغُ كما كلُّ الركاب والسائقين والمشاة، بالحديث عما وراء الطريق؛ فهو بالضرورة أجمل، لأنه لم يأتِ بعد!

ولا نفكرُ للحظات، كما كلُّ الذين يؤمنون أنَّ "المشيَ يصنعُ الطريق"، أنَّ الحياة قد تنتهي قبل الخطوة الأخيرة إليها، بعد أنْ تقذفنا شهقة كوابحَ عبثية إلى حياة أخرى لم نتهيأ للقائها السريع!

هكذا سالت دماؤنا على الإسفلت؛ الطفلُ الصغير جدا امتعَضَ لما نادته أمه على العتبة لتقبيله، بالكاد لمَسَت شفتاها خدَّه الناعم، ليستديرَ ملوِّحا بـ"باي" مَرحَة، ليلحقَ بمكانه الأثير، وسط مزاحمة أشقائه الأقل صِغرا، عند الشباك في سيارة أبيه. يمسكُ كتابَ الرياضيات المُلوَّن، يعدُّ الخرافَ في الحظيرة تكونُ ناقصة حتى يستقيمَ دَرْسُ الطرح. يودُّ لو يَسأل أباه ما معنى إشارة "الناقص"، لكنَّ دويا هائلا يطيرُ به، سالبا، إلى السماء.. وهناك تزيدُ الملائكة واحدا؛ فيودُّ لو أن له أبا هناك يسأله ماذا تعني إشارة "الزائد"!

للناس أعيادٌ مشتركة، يصحون باكرا ويُهنِّئون بعضهم لأنهم صادفوها سالمين. والطفل الكبيرُ قليلا أخبره والده أنَّ له عيدا خاصا به وحده، يتمنى له الناس فيه أنْ يعيش مائة وعشرين عاما. جاء عيده، وحرص على الصحو المبكر؛ ولأنَّ أحدا من الناس لم يأت ليُعايده، فقد خرَجَ برفقة أمِّه للقائهم.. أخبرَ البائعَ العابسَ، وسائقَ التاكسي الثرثار، وعامل النظافة المستجدي ابتسامة..، أنَّ اليومَ عيد ميلاده، فتمنوا له حياة مديدة انتهت به بعد ساعة واحدة على الرصيف نائما نومته الأخيرة، ووجهه معاتبٌ؛ فلم يعش من 120 عاما سوى ثلاث ساعات!

الزوج والزوجة اختلفا في السيارة على أشياء يمكنُ حلها بعد ساعة صمت، لكنهما واصلا النزاعَ، ولم يلتفتا أيضا إلى البنتين في المقعد الخلفي وهما تتجادلان بغيظ على مَنْ يكون الدور في غسيل "الجلي"، والفتى كانَ يُفكر في باله متى يعيشُ "حرا مستقلا". انحرفت السيارة قليلا فنثرتها شاحنة على الرصيف الترابي؛ أغلقت الطريق وجاءت كلُّ وسائل الإنقاذ، لكنَّ الفتى جلس، بعد شهرين من العلاج، وحيدا على طاولة السفرة!

الطفلُ الذي لم يعجبه تعليم أهله له المشي استمرَأ "الحَبْوَ"، ومرَّة خرج إلى باب المنزل واستقرَّ وراء سيارة عمِّه "البيك آب". سمع صوت المحرِّك، ابتهَجَ وأرادَ التقدم إلى الأمام؛ لكنَّ عمَّه قرَّرَ لأمر ما العودة إلى الوراء..

الكهلُ الذي يصرُّ على أنَّ بصرَهُ "حديد" دهس سيدة حاملا، وتوقفَ قلبه الخفيف على الفور، فقضت ثلاثة أجيال في حادث واحد. والشابُ الذي يسوقُ منذ كان عمره خمسة عشر عاما، وكثيرا ما يتباهى أنه يستطيعُ القيادة بعينين مغمضتين، أسرَفَ في الحديث إلى صاحبته عبر الهاتف المحمول بقلب مغمض، فاصطدَم على سرعة مجنونة بشجرة لم تسعفه أنْ يسمَعَ حبيبته تقول: "دير بالكْ على حالكْ"!

غادَرَتِ الحياة الكثيرين منا؛ ربما لأنهم كانوا يستعجلون الوصول إليها وراءَ منعطف خطر، أو لأنَّ بعضهم تضجره نواميسها، ويحبُّ التمرُّدَ على شواخصها التحذيرية، وربَّما كان بعض آخر يحبذ ممازحتها، حتى لو كانت بمزاج سيئ على طريق صحراوي معتم، ببنية إسفلتية رثة!

وأنا شخصيا ما أزالُ قلقا؛ في مرَّات قليلة حين أركبُ السيارة أشاهدُ وجهَ صديقي الجميل "غسان حزيِّن"، الذي بالغَ في نومه إثر حادث أحمق ضدَّهُ؛ لم يفعل حينها "غسان" شيئا، كما في حياته التي لم يتمَّ فيها أحلامه، ولا أظنُّ أنَّ حلما واحدا منها يأتيه الآن في "الكوما" التي جعلت نومه أبيض وطويلا.

أحبُّ الحياة؛ ودائما أجدُها لما ينتهي الطريق..، بدلالة أنْ أطفئ محرِّكَ السيارة بيدي..!

الغد

أضف تعليقك