في غرام الراديو
نرث حبّ الإذاعة عن الآباء والأجداد غالباً، وربّما عن الأمّهات اللواتي طالما اضطررن إلى النوم إلى جانب ذلك الصندوق الأسود غالباً، الذي يبدو واحداً من شروط عقد الزواج. مازلت أذكر أجهزة الراديو القديمة، بايلوت وكيمبرج، وفيلبس، التي تمّ اقتناؤها في البيوت منذ ثلاثينيّات القرن العشرين وأربعينيّاته، حيث لم يكن الراديو للصحو فحسب، ذلك أنّ ملاك النوم لا يأتي إلاّ على صوت نجاة وعبد الحليم وأم كلثوم وفايزة أحمد... من الذي يطفئ الراديو؟! لا بدّ من أنّ أطفالاً كثراً شاركوني ذلك السؤال، من الذي يطفئ راديو جدّي أو أبي بعد نومه، إنّه ذلك الملاك لاشكّ، فلو كان أحد أفراد الأسرة لنشبت معركة في البيت، ومعركة أخرى محتملة تنشب حينما تفرغ البطّاريّات فجأة، ونكون قد استهلكنا بطّاريّات الاحتياط لأشياء أخرى!
أوّل راديو اقتنيته كان من ماركة (سوني)، وكنت في الصفّ الرابع الابتدائيّ، صغير بحجم كفّ اليد، وأنيق، وله سمّاعات، لتعزيز الفرديّة. لدوران المفتاح، وحركة الإبرة سحر لا يضاهيه زرّ الديجتال، فالذبذبات تحمل حيرة ما بين النوال والفقد...
لاشكّ في أنّ الـ B.B.C كانت الأكثر شهرة، تلك الإذاعة التي بدأت تبثّ بالعربية في العام 1938، بدقّات (بيغ بن) الشهيرة، وعبارة المذيع الواثقة: "هنا لندن..هيئة الإذاعة البريطانيّة". نشأت الـ B.B.C ضمن رؤية كولونياليّة مثل أيّة جامعة أو مركز ثقافيّ يحمل توقيع الرعاية البريطانيّة، ويمتلك ما نسمّيه (أجندة)، لكنّ الفكرة الاستعماريّة دائماً تحمل معها مقوّضاتها، إذ فتحت نوافذ العالم على الثقافة والفنون، وكانت مدرسة قائمة بذاتها في الإعلام، وبالنسبة للسياسة، فقد وثق بها العرب ثقتهم بالجوخ الإنجليزيّ، وهي التي صنعت المفارقة الساخرة بين تغطية الأحداث الآنيّة في بلدانها، وتكتّم الإذاعات الوطنيّة عليها. منحت هذه الإذاعة الفرد العربيّ ذوقاً رفيعاً في الاستماع والتحليل من خلال أدبيّات الخطاب التي حملتها أصوات مذيعيهابفصاحتهم، وتوقيعاتهم البليغة في التحيّة والقفلة، وحسن التخلّص في الحوارات وتدارك الأخطاء، وعبقريّة الصوت أحياناً، حيث سيطرة مصريّة وسودانيّة وعراقيّة وفاقاً للغة الانتداب، وكثير منّا سيظلّ يتذكّر ماجد سرحان، ومحمد الأزرق، وحسن أبو العلا، ومديحة المدفعي، وسامية الأطرش.... وقد صنعت برامجها ذاكرتنا كما فعل “قول على قول” للأستاذ حسن الكرمي، و"السياسة بين السائل والمجيب" و"دنيا الفنّ" لمحمّد الصالح الصيد.
(هنا دمشق) العبارة المفتاحيّة الخاصّة بأمّي، حيث آمنت كثيراً بالمحليّة من منظار الواقعيّة، والاهتمام بتفاصيل الحياة اليوميّة: رفع الأسعار، معارض كتب، كشوفات أثريّة، نشاطات سياحيّة، وثقافيّة، والنقل المباشر لصلاة الجمعة من المسجد الأمويّ، بعد برنامج وعظي قصير، وكان إعداد العشاء يترافق مع برنامج الأغاني والإهداءات.
(صوت العرب) من القاهرة، تأسست في 1953، وجاءت شكلاً من أشكال الردّ على الكولونياليّة، والقطب الآخر الذي أولعت به الجماهير العريضة، فكانت تلك الإذاعة رابطة قوميّة للمتحمّسن وأصحاب الأحلام بشمس الوحدة والحريّة، ولعلّها أكثر إذاعة فرح المستمعون في ظلّ موجتها وبكوا: مع التأميم، والاستقالة، والهزيمة، وموت الزعيم، أمّا الذين لا يحبّون جمال عبد الناصر فكانوا يعرضون عنها، ولا يثقون بنشرة الأخبار.
لـ(مونت كارلو) التي نطقت بالعربيّة في العام 1972 سحر باريس، وتحرّر الفرنسيّة من صرامة الإعلام التقليديّ، ويمكن قراءة ولادتها كصحوة للفرانكوفونيّة، فالأحداث العاديّة حينما تصل الشرق تفقد براءتها، وتدرج في مشاريع. سيطر عليها اللبنانيّون بحكم إرث الانتداب أيضاً، مع حكمت وهبي الذي كان غيابه صادماً، وغابي لطيف، وألبومات إديت بياف وجاك بريل.
لأصوات المذيعين في الراديو سحر الخطر والفرح والعزاء، إذ نستشرف خبر الحرب أو الموت من من نبرة الصوت، وأداء العبارة بعيداً عن ضغط الصورة، لذا نتهرّب من مشاهدة تلك الوجوه كي لا يذوب ذلك السحر، ولا تباغتنا الخيبة، لأنّ الصوت يحملنا على أن نرسم لهم صوراً تخصّنا، وقد اعتقدنا بأنّنا عقدنا معهم صداقة أبديّة.
(إذاعة الشرق) لم تكن تصلنا في أماكننا القصيّة، لكن في طريق السفر كنّا نأسر موجتها كما يأسرنا صوت السوريّة هيام حموي.
أخبار كثيرة سعيدة ومحزنة وصلتنا عبر أثير الإذاعات... أتذكّر مثلاً من لندن إعلان وفاة فايزة أحمد، وتغطية أحداث حرب الخليج، ونيل نجيب محفوظ لجائزة نوبل...
أريد أن أذكّر فقط بأنّ أوّل نشرة أخبار عربيّة من الـ B.B.C كانت بصوت كمال سرور 1938، وجاءت كالآتي:
"فلسطين: نُفّذ حكم الإعدام شنقاً في عربيّ آخر من عرب فلسطين في (أكر) صباح اليوم بأمر المحكمة العسكريّة، وقد أُسر جريح عربيّ وحمل إلى مستشفى الحكومة. أطلق الرصاص على قطار كان يسيبر بين التلال القريبة من القدس، ولكن لم يصب أحد بسوء. ثُقبت ماسورة شركة الزيت العراقيّة مرّتين أثناء الليلة الماضية.".
ستلاحظون التغيّر من حيث غنى التفاصيل، والصياغة، واستعمال المفردة، لكنّ جوهر الحدث لم يتغيّر!
في اليوم العالميّ للإذاعة الذي يصادف 13 شباط من كلّ عام، سنحيي إذاعة المملكة الأردنيّة الهاشميّة، وراديو البلد حليفتنا ومضيفتنا، التي أثبتت التزامها لتكون حقّاً (صوت الناس والبلد).
د. شهلا العجيلي: روائيّة، وأكاديميّة، أستاذة الأدب العربيّ الحديث في الجامعة الأميركيّة في مادبا. لها في الرواية “عين الهرّ” الحائزة على جائزة الدولة التشجيعية 2009، و”سجّاد عجميّ”، و”سماءٌ قريبة من بيتنا”.