في زمن الكورونا: الآخر هو الجحيم

يقول ألبير كامو: "الشيء المهم كما قال آبيه غالياني لمدام ديبنيه هو أن لا نشفى، بل نعيش مع أمراضنا".

عندما كتب كامو مقولته تلك، هل كان يدرك أننا سنصاب بطاعون من نوعٍ آخر؟ طاعون كورونا أو لنسمه باسمه الفعلي لا المجازي فيروس كورونا، والذي يعتبر أكثر توغلاً من طاعون الجزائر في القرن الماضي؟ وهل علينا الآن التعايش مع هذه الأزمة العالمية بوعينا؟ أم تجاهلها وتجاوز متطلباتها بلا مبالاتنا المعهودة؟.

"كورونا قاب قوسين أو أدنى من أن يصبح وباء يثير الهلع، ويفعل فعله في النفوس والأفكار، كما في البورصات المالية والسياسات الدولية. إنه يدق طبول حرب عالمية من نوع آخر. ووهان الصينية، موطن هذا الفايروس القاتل، يمكن تشبيهها بوهران الجزائرية، المسرح الافتراضي لأحداث رواية الطاعون للفرنسي ألبير كامو (1913 - 1960)، وذلك من حيث الرمزية والدلالة والأسئلة الوجودية"[1].

لقد تنبأ تشارلز نيكول، الفائز بجائزة نوبل في الطب في عام 1928 أن الميكروبات تتكيف دائمًا. وتساهم العديد من العوامل التي تم تكثيفها في السنوات الأخيرة في هذا الوضع، ولا سيما تطوير النقل الجماعي، والتغير المناخي العالمي، وزيادة عدد سكان العالم، وتوسيع وتكثيف الزراعة، وتربية الماشية، وإزالة الغابات، وكلها تنطوي على زيادة الاتصال بين البشر والحيوانات وتعزيز انتقال الفيروسات بين الأنواع، ويجب أن يتم الاستعداد لمكافحة الأوبئة في وقت مبكر وعلى المستوى العالمي، ولا سيما من خلال التعاون بين الأنظمة الصحية والبحثية القوية الممولة بشكل دائم". إن الفيروس الحالي يخبر العالم الآن بما كنا نقوله منذ آلاف السنين، وإذا لم نساعد في حماية التنوع البيولوجي والطبيعة، فسوف نواجه هذا التهديد، وأسوأ التهديدات في المستقبل.

فيروس Corona COVID-19""، الذي ظهر بداية العام 2020، والذي تسارع في انتشاره عبر العالم، ما هو التحدي الجديد الذي يطرحه أمام البشرية؟ وما هو شكل الحياة، حتى ينتهي أمد ذلك الفيروس؟

نعم، يجتهد الإنسان لإنشاء حضارة، ويجتهد في ذات الوقت لوضع خطط إبادتها، إذا أراد، حتى لو كانت تلك الخطط تعني أن يكون البشر جميعًا تحت رحمة عدوّ أكثر شراسةً منهم، مثل الجراثيم والفيروسات مثلًا. عرف الإنسان القتل باستخدام الجراثيم قبل أن يعرف الجراثيم ذاتها، وإذا كنّا اليوم نعرفها باسم الحرب البيولوجية، فإن السابقين لم يعرفوها بهذا الاسم. وإذا كانت الجهة مصدر الجرثومة أو الفيروس، تحرص على تطوير ترياق يحميها من الهجمة البيولوجية، فإن السابقين لم يشغلوا بالهم بكيفية صنع ما يقيهم من سلاحهم[2].

لقد حمل الفيروس في جعبته أثقالاً كثيرة، ورماها على كاهل الإنسان والإنسانية جمعاء، وروع ضعاف القلوب من تبعاته، وتطورت الأحداث المرافقة لبقائه؛ فماذا غير في حياتنا؟ وماذا أيقظ من مفاهيمنا؟ وماذا أمات؟

- ما هو شكل الحياة في ظل كورونا؟

يبدو أن الحياة الاجتماعية تحتاج إلى "أزمة" بين الحين والآخر؛ بمعنى آخر لاختبار قوتها، والأزمات هي لحظة الحقيقة، وهي لحظة يقظة شديدة مختلطة مع لحظة صادمة تشبه الهذيان أو لنقل اللاوعي الكامل! فأنت مطالب بكامل العقل، وأنت بداخلك بمنتهى الصدمة.

كتبت الدكتورة نانسي ميسونير، -مديرة المركز الوطني الأمريكي للتحصين وأمراض الجهاز التنفسي في مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها- على صفحتها في الفيس بوك: "ليس السؤال ما إذا كان هذا سيحدث بعد الآن، بل إنه سؤال يتعلق بموعد حدوث ذلك بالضبط". وتقصد بذلك تفشي فيروس الكورونا Corona COVID-19"" حول العالم أجمع، وأمريكا على وجه الخصوص، وتطلب ميسونير وزملاؤها في مراكز مكافحة الأمراض والوقاية منها من الأمريكيين البدء في الاستعداد للاضطرابات العديدة التي قد تكون في طريقهم، وتقول: "قد يكون اضطراب الحياة اليومية بعد ذلك شديداً".

نحيا إشكاليات معقدة، علينا تدبير وسائل مواجهتها فهذه ليست حرب، لا أحد يهاجمنا بالأسلحة، ولا يوجد عدو خفي، أو معروف يبذل قصارى جهده لتعطيل حياتنا أو تدمير مجتمعاتنا، يجب العمل معاً بشكل أفضل، وربما نرى في ذلك "مظهر من مظاهر المساواة". إنه شيء نواجهه جميعاً كمجتمع، ليس بالأسلحة، ولكن بالجهود المشتركة. وعلى عكس الحرب، يمكننا مواجهة هذه التحديات بأفضل الإمكانيات المتاحة لنا بسلام. والمبدأ الرئيس أنه: لا يمكننا التحكم في ما يحدث لك، ولكن يمكننا دائمًا التحكم في كيفية ردك عليه، ولا نعرف متى سينتهي هذا، لكنه سينتهي.

إن التعامل مع هذا الفيروس سيؤدي إلى تغييرات في السلوك الاجتماعي، وسنلاحظ ظهور أنماط جديدة لم نعهدها في العلاقات، وسنلاحظ اختفاء أشياء وسلوكيات طالما اعتدنا عليها. وعلى الرغم من أن المصافحة كانت موجودة منذ آلاف السنين، إلا أنها لم تصبح بالفعل تحية افتراضية حتى عشنا طقوس الفيروس، وسيتم استبدال المصافحة بشيء مشابه لا يتطلب أي اتصال، مما يعني تلاشي الحميمية الناتجة عن الاتصال الجسدي تدريجياً.

من ناحية أخرى، وفي الجانب التعليمي مثلا وبدلاً من الذهاب إلى المدارس، يحضر الطلاب الفصول الافتراضية. وبدلاً من ممارسة الرياضة في الحياة الواقعية، يمارس الجميع الرياضة اعتماداً على تعليمات العالم الافتراضي، سيعود العالم إلى منصة الافتراضي لتبادل المشاعر، والاحتياجات المادية والعاطفية، وستشهد مواقع التواصل الاجتماعي تزاحماً في طرح الحياة بشكل افتراضي، لا نملك منه سوى جهاز إلكتروني وحفنة تفاعلات عابرة.

وقد ينتهي حال العالم الافتراضي، ليغدو أفضل طريقة للتفاعل، خاصة مع الإصدارات المثالية لأنفسنا كآلهة. ولإبعاد خطر فيروس كورونا، سنحتاج إلى إجراء تغيير جذري لكل ما نقوم به تقريبًا: كيف نعمل، كيف نتسوّق، وكيف نعلم أطفالنا، وكيف تتم رعاية أفراد الأسرة؟.

"الجحيم هو الآخرون": مقولة الفيلسوف الفرنسي جون بول سارتر، لكن "الجحيم هو الآخرون" فُهمت دوماً على نحو خاطئ. اعتقدوا أنني أردت بذلك أنّ علاقاتنا بالآخرين يشوبها دائما الحذر والتوجس والخوف، بأنها كانت دائما علاقات جهنمية، إلا أنني أريد شيئا آخر تماماً. أعني، إذا كانت العلاقات مع الآخر ملتوية وفاسدة، إذن لن يكون الآخر إلا الجحيم.[3]

إن علاقتنا بالآخرين، أيّا كانوا، هي تهديد محتمل. وهذا التهديد غير مرئي، أو معروف، ويتربص في كل مكان، وفي كل زاوية، وفي كل مكان، الحياة كما نعهدها لم تعد موجودة. عُلقت إلى أجل غير مسمى. دخلنا في حالة من النسيان ممزوجة الوحدة والخوف. حالة تنبيه تتغلب على الشخص، عندما لا يكون قادراً على التحكم في مدى التهديد وطبيعته أو حتى فهمه. ويجب علينا اختراع حياة يومية جديدة. بتفاصيل واهتمامات وطقوس جديدة، وأولئك الذين سيعانون أكثر، كما هو الحال دائمًا، هم أولئك الذين لديهم ديناميكية ومرونة أقل.

كلنا نريد أن تعود الأمور إلى طبيعتها بسرعة، ولكن ما لم يدركه معظمنا على الأرجح، هو أن الأمور لن تعود إلى طبيعتها بعد بضعة أسابيع، أو حتى أشهر قليلة. وبعض الأشياء والمواقف لن تفعل ذلك أبداً، حتى بعد انتهاء محنة الفيروس.

- التفكير بالمستقبل: المصير والغد؛ ماذا ينتظرنا؟

يعتبر فيروس كورونا اضطرابًا مؤقتاً، لكنه بداية لأسلوب حياة مختلف تماماً.

في الأسابيع القليلة الماضية، تحولت تجربتنا مع الفيروس من "ما هذا؟" إلى "ماذا يعني هذا لحياتي؟"، وماذا يعني لأسرتي ولمجتمعي وعالمي الأكبر؟

لقد أعادنا فيروس كورونا إلى التفكير في المستقبل والتحيز صوبه؛ نحن الغارقون في تفاصيل اللحظة الراهنة، والمنغمسون في ثنايا جزئياتها، ولقد سعى بعض الفلاسفة والمفكرين إلى إيجاد مبرر لهذا التحيز، ربما كان الفقد هو سبب اهتمامنا بالموت المتربص بنا، لأن الموت ينطوي على فقْد شيءٍ كان موجوداً؛ أو ربما فاق اهتمامنا بالمستقبل بدل الماضي، لأن المستقبل مفتوح على كل الاحتمالات، مما يجعله أكثر إلحاحاً من ماضينا الذي لا يقبل التغيير؛ أو لعله كان جزءاً من بقايا التطور: الكائن الذي يهتم بتأمين مستقبله أكثر من التوغل في الماضي هو أبقى من الكائن الذي لا يبالي لا بماضيه ولا مستقبله، ويدل انحيازنا إلى المستقبل على وجود انقسامٍ عميق في ماهيتنا؛ فكل واحد منا هو كائن بشري، يعيش حياة متشظية عبر الزمن، وكل واحد منا هو أيضًا فاعلٌ حاضرٌ في التجربة، يعيش الآن وهنا، بينما هو متعلق بالأحداث التي ولّت، والأحداث التي يحملها له الغد. قد تتعارض في بعض الأحيان المصالحُ بين هذين المنظورين، ولعلّ هذا هو السبب الذي قد يدفعك إلى اختيار حياة أسوأ لو علمت أن الألم وراءك[4]. إن تاريخ البشرية، ما تقدم منه وما تأخر، عبارة عن بحر، قد تتلاطم أمواجه هنا وتهدأ هناك، ولكن الماء يبقى دائما شبيهاً بنفسه؛ وكذلك "الماضي" و"الآتي" يشبه الواحد منهما الآخر كما يشبه بعض ماء البحر بعضه الآخر. وكل ما يمكن استخلاصه لفائدة "المستقبل"، من هذا البحر المتلاطم الأمواج، هو "العبرة"؛ أي الدرس الأخلاقي الديني الذي ينبه الإنسان إلى أن هذه الحياة الدنيا تافهة وزائلة.[5]

الخاتمة:

ومع تزايد انتشار فيروس كورونا، وتزايد الخوف منه لا نبالغ، إن اعتبرنا هذه الأزمة هي الكبرى في عصرنا. وبأن عام 2020 هو عام سيحدد بوصلة هذا العصر في مختلف مجالات الحياة، وعلى كل أصعدتها. وكم نحتاج الآن وبشدة إلى الحب والأمل والرعاية. هذا هو الوقت الذي يجب علينا الاستفادة من المنابع الفلسفية والروحية في حياتنا، وتكثيف العمل الجماعي عن بعد أو قرب، والإيمان والأمل، والإحسان، والتوعية التي تخفف من معاناة الآخرين دون أن تسخر أو تستهين بها، فما زلنا نأمل في النهاية أن ننظر إلى الوراء، ونشعر بأننا كنا مستعدين.

  

[1] حكيم مرزوقي، الطاعون.. رواية تقارب بين وهران وووهان، صحيفة الحياة العربية، 10، اذار، 2020

[2] الحرب البيولوجية: رحلة الإنسان من التحضر للوحشية، عصام الزيات، موقع اضاءات، 3-2-2020

[3] الجحيم هو الآخرون، جون بول سارتر، المقال ترجمة لحديث لسارتر عن مقولته "الجحيم هو الآخرون"، موقع الموجة.

[4] باتريك ستوكس، ترجمة: عبدالله بن قعيّد، سؤال الفلسفة: هل القادم أجمل؟، موقع معنى الإلكتروني، 1 نوفمبر، 2019

[5] محمد عابد الجابري، الماضي والمستقبل... أيهما يحكم الآخر؟، مجلة فكر ونقد، العدد 51

أضف تعليقك