في النَّسَوية الرجولية
ما يثير الانتباه، عند النظر إلى الحركات النَّسَوية (féministes) العربية، هو غياب الرجال في مكاتبها وفي صفوفها، وهو الأمر الذي يطرح عدة تساؤلات. كيف يمكن تفسير وفهم ذلك الغياب؟ هل يرجع الأمر إلى كون الرجال العرب يرفضون المساواة الجندرية (بين الرجال والنساء في الحقوق) التي تطالب بها الحركات النَّسَوية، ويرفضون بالتالي الانخراط في تلك الحركات؟ أم إن هذه الأخيرة ترفض مشاركة الرجال داخلها، وتعتبر نفسها حركة نسائية (féminine) محضة، وأن قضية المرأة قضية نسائية صرفة تقوم على تجربة نسائية خاصة؟ أم إن الأمر يعود إلى تخوف الحركات النسوية من إعادة إنتاج هيمنة الرجال داخلها ومن تكرار العلاقات الجندرية اللامساواتية السائدة في المجتمع العربي؟ كما يمكن افتراض حرص النساء النسويات على احتكار النضال (militantisme) النسَوي كوسيلة لتحويل بعض النساء إلى قائدات (leaders)؛ أي لخلق نخبة نسائية يتعذر بروزها في التنظيمات الحزبية والنقابية؟ وبتعبير آخر، ترى بعض النسَويات (الغربيات) أن تولي الرجال الدفاع عن تحرير النساء في الحركات النسَوية يشكل في حد ذاته نسَوية مضادة ينبغي الاحتراس منها وتجنبها من خلال حصر النضال النسَوي في صفوف النساء وحدهن.
الرجال النسويون لا يبحثون عن تحقيق مصالح فئوية، بل يناضلون ضد مصالحهم المباشرة من خلال رفض الامتيازات التي يمنحهم إياها النظام الجندري الأبيسي
قناعة نسَوية رجولية خالصة
ما معنى أن يكون الرجل نسويا إذن؟ يحيل مفهوم "الرجل النسوي" طبعا على الرجال المنخرطين الملتزمين المناضلين في الحركات النسوية (وهم أقلية إحصائية في العالم كله)، لكن يحيل أيضا على كل المفكرين الذين نظَّروا للمساواة بين الرجال والنساء (مثل ابن رشد وابن عربي في التراث العربي-الإسلامي). ويحيل أيضا على بعض إصلاحيي "النهضة العربية"، مثل قاسم أمين والطاهر الحداد وعلال الفاسي الذين قالوا بضرورة تعليم المرأة والتخلص من الحجاب ومنع تعدد الزوجات، وعلى بعض الكتاب الراديكاليين مثل إدريس الشرايبي الذين رأوا أنه لا مناص من التخلص من الإسلام في تدبير شؤون المرأة قصد تحريرها. ويحيل أيضا على بعض الأكاديميين العرب (مثل عبد الصمد الديالمي) الذين حضروا أطروحاتهم على موضوع المرأة والنسوية والجندر والجنس، وخصصوا كل أعمالهم وكتاباتهم حول تلك المواضيع لأسباب علمية محضة، رغم كل التبخيس الجامعي لتلك المواضيع. وبديهي أن كل ما أنتجه الرجال المذكورون أعلاه، مكن الحركات النسوية من أدلة فكرية ونظرية وميدانية للدفاع عن المساواة بين النساء والرجال.
وبشكل أعم، يحيل الرجل النسوي على رجالات بنوا نظريات حول المساواة بين الجنسين، أو ساهموا في وضع قوانين لصالح تلك المساواة أو ساندوا مطلبا نسَويا في المجتمع أو في صفوف أحزابهم ونقاباتهم وجمعياتهم، أو طبقوا عمليا المساواة بين الجنسين في حياتهم المهنية و/أو الخاصة. من هنا يتبين أن القناعة النسَوية أعم بكثير من النضال النسَوي. فإذا كان النضال النسوي الرجولي يحيل على بعض الرجال النسويين فقط، فإن القناعة النسوية الرجولية تشمل كل الرجال النسويين بدون استثناء، المناضلين منهم وغير المناضلين؛ ذلك أن مقولة "الرجل النسَوي" تجمع كل الفئات الرجولية النسوية، المنخرطة وغير المنخرطة في النشاط (activisme) النسَوي، وبالخصوص حول المبادئ التالية: الإقرار بأن القضاء على الظلم ضد النساء أولوية، الانخراط في الإعلاء من قيمة المساواة، التخلي عن امتيازات الرجولة، الاستعداد لتطبيق المبادئ النسوية في الحياة الخاصة، تعلم أنماط غير تراتبية في التواصل مع النساء، إبداء الاحترام تجاه النساء.
إن الإيمان الرجولي بمبدأ المساواة بين الجنسين لا يقصد الحصول على مصالح رجولية مباشرة. فالرجال النسويون لا يستفيدون، كطبقة جنسية سائدة، من حصول النساء على الحق في التصويت والترشح وعلى الحق في المحاصصة (quota) أو في المناصفة (parité)، أو على الحق في الجنس قبل الزواج وفي منع الحمل وفي الإجهاض، لأن حصول النساء على تلك الحقوق الجنسية والإنجابية يحررهن من حق الرجال في مراقبة أجسادهن وفي تبادلها داخل السوق الجنسية، الزوجية وخارج الزوجية بكل أشكالها. من هنا يتجلى أن الرجل النسَوي مناضل بذاته وفي ذاته، ولو كان خارج حركة نسَوية منظمة (جمعوية) أو غير منظمة (حركة اجتماعية ساخنة ظرفية وعفوية). فالرجال النسويون لا يبحثون عن تحقيق مصالح فئوية، بل يناضلون ضد مصالحهم المباشرة من خلال رفض السلط والامتيازات التي يمنحهم إياها النظام الجندري الأبيسي السائد. إنهم مناضلون أخلاقيون يحاولون تحت وخز الضمير إصلاح وتعويض ما طال النساء من ظلم وتعنيف خلال قرون أبيسية طويلة.
لهذا السبب، قليلون هم الرجال المستعدون للتنازل عن السيطرة الرجولية، إذ يرون أن ذلك التنازل خيانة للرجولة، اعتقادا منهم أن الرجولة سيادة بذاتها وفي ذاتها؛ أي بطبيعتها. وبالتالي، لا وجود لرغبة جماعية رجولية في الانخراط في النشاط النسَوي الحركي المساواتي، ولا وجود لحركة رجولية نسَوية مساواتية قائمة بذاتها. في هذا الصدد، حاولنا مثلا تأسيس جمعية تحت اسم "الجمعية المغربية للرجولة المساواتية"، لكن محاولتنا باءت بالفشل، إذ رفض الرجال المتحمسون للفكرة حضور الاجتماع التأسيسي. ما هو موجود إذن في الساحة، ضعف الانخراط الرجولي النسوي، بل محاربة النسَوية في أبعادها الفكرية والنظرية والحركية ونعت المناضلات النسويات بأفدح الألقاب. من ثم أسس بعض الرجال مثلا جمعيات تندد بعنف النساء ضد الرجال، وتطالب بقياسه ومحاربته، متوهمين عن حسن نية أن العنف الجندري له وجهان متساويان؛ وجه رجولي ووجه نسائي، وأن الاختلاف بينهما اختلاف في التكرارية فقط، وليس في الطبيعة. مما يدل على جهل الرجال للطبيعة البنيوية للعنف الجندري كعنف يؤسس ويحافظ على السيطرة الرجولية، فيبدو ذلك العنف الرجولي طبيعيا بالنسبة إلى أغلبية الرجال والنساء معا، لأنهم معا سجناء نظام أبيسي مُطَبَّع في العقليات. وبالتالي، تعني المساواة بالنسبة إلى الأغلبية من الرجال فقدان الرجال لامتيازاتهم ولموقع السيطرة الذي يمكنهم من استغلال النساء بشكل فردي وجماعي، وهو الأمر الذي يفسر أيضا قلة الرجال النسويين في صفوف الرجال التقدميين أنفسهم؛ فالتقدمية الرجولية كثيرا ما تقف أيضا عند بداية المطالبة النسوية بنهاية الهيمنة الرجولية. وبالتالي يجدر التمييز بين الموقف النسوي المساواتي المبدئي المميز لكل الحركات التقدمية، وبين مواقفها وسياساتها العملية غير المساواتية في بعض الأحيان من جهة، ثم بين المبدأ النسوي في الحركة التقدمية، وبين الموقف اللامساواتي للأفراد داخل الحركة من جهة أخرى.
الالتزام/النضال النسَوي الرجولي
يعني النضال النسوي الرجولي الالتزام بالقضية النسائية في صفوف حركات نسَوية والانخراط فيها، وهو الشيء الذي يقود إلى ضرورة التمييز بين الحركة النسائية والحركة النسَوية. صحيح أن الحركتين تلتقيان معا في كون النساء يشكلن مجموعة واحدة في نهاية المطاف (رغم الفروقات الاختلافية بينهن) وفي استعمالهما للغة مجندرة، وفي التعبير عن كل النساء ولصالح كل النساء. لكن ما يميز الحركة النسَوية كحركة داخل الحركة النسائية أنها تطالب بتغيير الشرط النسائي وبإنهاء التراتب الجندري. وبدقة أكبر، تعني الحركات النسوية كل الجمعيات المستقلة التي تناضل من أجل حقوق النساء وضد النظام الأبيسي؛ أي ضد تلك البنية الثقافية التي تُحوِّل الاختلاف البيو- طبيعي بين الإناث والذكور إلى تراتب مادي ورمزي بين النساء والرجال (لصالح الرجال). وبالتالي المقصود بالمناضل النسوي ذلك الرجل الذي ينتمي إلى حركة نسَوية ساخنة، أو إلى جمعية نسَوية منظمة ويشارك بشكل قار ومستمر في تظاهراتها وفي أنشطتها. أما الالتزام النسوي داخل حزب سياسي أو داخل مؤسسة إدارية، فهو التزام اضطراري يفرض نفسه على المناضل الحزبي وعلى الموظف، ويختلف تماما عن الانخراط الإرادي الحر في جمعية نسوية مستقلة، انطلاقا من قناعة حرة ومستقلة. وتفرض هذه الملاحظة استطرادا مفاده وجود أقطاب نسوية أخرى غير حركية/جمعوية، إما داخل الأحزاب السياسية (نسَوية حزبية) وإما في المؤسسات (نسوية الدولة أو نسوية مؤسساتية).
السؤال الذي يطرح نفسه هنا بإلحاح هو التالي: كيف يصبح الرجل مناضلا نسويا مشاركا في النشاط النسوي؟ ما هي السيرورة/الصيرورة التي يتحول بفضلها الرجل إلى مناضل نسوي؟ طبعا، ونظرا للغياب الشبه التام للرجل العربي في الجمعيات النسوية العربية، كمناضل عضو و/أو مسير، تصعب الإجابة عن هذه التساؤلات غير المطروحة أصلا في العالم العربي. فغياب المناضل النسوي العربي أمر إرادي ولا إرادي في الوقت ذاته. فهو يعبر من جهة عن اختيار حر؛ أي عن موقف رجولي أبيسي لامساواتي سعيد يتبنى ذاته بفخر واعتزاز دفاعا عن رجولة مهيمنة لا تقبل المساءلة. ويعبر من جهة أخرى، عن تغييب إرادي للرجل في الجمعيات النسوية من طرف تلك الجمعيات نفسها من أجل احتكار الرساميل المادية والرمزية التي أصبحت الجمعيات النسوية تتوفر عليها، بذريعة "الطبيعة/الماهية" النسائية للنسَوية: النسوية للنساء فقط، النساء وحدهن يعشن تجربة نسائية سلبية ووحدهن باستطاعتهن التعبير عنها، النسوية "تسييس" للمأساة النسائية من طرف النساء فقط.
من الأمثلة على ذلك، المثال الفرنسي؛ ففي الموجة الأولى من النسوية الفرنسية، تمت تدريجيا إزاحة الرجال من المناصب القيادية في الجمعيات النسوية. ومنذ السبعينيات من القرن الماضي، ورغم القول بالاختلاط (mixité) في العضوية وفي القيادة داخل الجمعيات النسوية (في بداية التسعينيات)، ظل التزام الرجال محط مراقبة يقظة من طرف المناضلات حتى لا يعاد إنتاج علاقات السيطرة الرجولية داخل الجمعيات النسوية نفسها. إن المبالغة في الحذر النسائي من انخراط والتزام الرجال النسوي دفع بالكثير من الرجال الفرنسيين إلى التراجع عن ذينك الانخراط والالتزام. وبالتالي تم تسجيل تراجع نسبة الرجال في الحركة النسوية الفرنسية بمجملها من 33٪ إلى 15٪ ما بين 1870 و2010.
كل هذه الاعتبارات تدعو إلى الإنصات والاستفادة من تحول أقلية من الرجال الغربيين إلى مناضلين نسويين بالمعني الدقيق والضيق. لعوامل مثل التنشئة الاجتماعية والحركية الاجتماعية أو الجغرافية وبعض التجارب المهنية أو الطلابية أو عدم الاطمئنان إلى/في مكانة الرجل المهيمن ترابط علائقي محتمل مع الانخراط والالتزام بالنضال النسَوي. إضافة إلى هذه العوامل، لا بد أن يكون الرجل منخرطا في مجموعات سياسية أو نضالية قريبة فكريا من المجموعات النسوية، لكي يكتشف النسوية ولكي يتكون لديه الاستعداد للانخراط فيها. فالرجال، خلافا للنساء، غالبا ما يبدؤون بالتزام سياسي قبل التحول إلى النسوية والانخراط فيها.
المقصود بالمناضل النسوي ذلك الرجل الذي ينتمي إلى حركة نسَوية ساخنة، أو إلى جمعية نسَوية منظمة ويشارك بشكل قار ومستمر في تظاهراتها وفي أنشطتها
من المناضل النسَوي إلى المناضل الجندري
من تبعات الحرص النسائي على طهارة وصفاء النسَوية من كل مزلق أبيسي بسبب الانخراط الرجولي في الدفاع عن حقوق النساء وعن المساواة، ظهر اليوم التزام رجولي آخر يركز على ضرورة تغيير معايير الجندر، وعلى محاربة نسق الجندر نفسه. ومن ثم التساؤل عن الهوية الرجولية وعن الرجولة وعن بنائها كسيطرة، وعن إعادة بنائها على أسس جديدة غير تراتبية وغير سلطوية، لا بين الرجال والنساء فحسب، بل بين مختلف الرجال أنفسهم. إنه المناضل الجندري الذي يُسائل نسقا يصنع هويات غير متوازنة بين جنسين مجندرين لا ثالث لهما، ويجبرهما معا على الخضوع إلى معيارية جنسية غيرية (hétérosexuelle). في هذا الإطار النظري والحركي الجديد، ظهرت مراكز بحث تقوم بدراسات عن الرجولة قصد تفكيكها كسيطرة، وذلك كما فعلت الحركة النسوية من قبل بصدد الهوية النسائية قصد رد الاعتبار إليها، وتعويضها عما عرفته من ظلم واستغلال. والجديد في المقاربة الجندرية الهوياتية أنها لا تعتبر لا الرجولة ولا الأنوثة مواضيع علمية، لأن موضوعها العلمي هو النسق الجندري نفسه، ذلك النسق المؤسس لعلاقات سلطة بين الرجال والنساء، وبين الرجال والرجال، وبين النساء والنساء، على أساسي الجنس الاجتماعي (sexe social) والميل الجنسي (orientation sexuelle). فالمنظور الهوياتي يقود الجنسين معا إلى رفض الجندر المفروض على الفرد قهرا من طرف المجتمع، وهو منظور يجمع بشكل أيسر الرجال والنساء معا في نفس المبحث العلمي. وهذا هو امتياز المقاربة الجندرية، فهي تتوفر على موضوع علمي نظري يجعلها أقل سخونة وأقل فئوية بالمقارنة مع المقاربة النسَوية، بل إن مفهوم الجندر يعطي المقاربة النسوية موضوعا نظريا كانت تفتقده، ومن ثم مشروعية علمية، أكاديمية جامعية، كانت النسوية تفتقدها أيضا.
خاتمة
إن انتقال انخراط الرجال من النسوية إلى الجندرية يقتضي من الرجال بناء هوية تصالح بين المتطلبات النسوية، وبين الانتماء الرجولي إلى الطبقة الاجتماعية الجنسية السائدة التي تنتقدها النسوية بالضبط. هذا ما يدفع الرجال إلى استعمال مصطلحات أربعة للتعبير عن تلك المصالحة بين نسويتهم وبين رجولتهم. فالقناعة الرجولية الملتزمة نسَويا تتأرجح فعلا بين أربعة نعوت هي: الرجل النسَوي، الرجل المساند للنسوية (pro-féministe)، الرجل الرافض للتمييز الجنسي (antisexiste)، الرجل الرافض للأبيسية (anti-patriarcal). بفضل هذا التنوع الاصطلاحي، تكتسي الأقلية الرجولية غير الدالة إحصائيا في الحركة النسوية (على الصعيد العالمي) دلالة سوسيولوجية مهمة. إنها تفتح آفاقا جديدة للمعركة النسَوية، وتبين أن هذه المعركة ليست معركة نسائية فقط، إذ لا تبقى النسوية "تسييسا" للتجربة الاجتماعية النسائية وحدها. فالنضال من أجل حرية الإجهاض ومنع الحمل والحرية الجنسية (بشكل أعم) لا يهم النساء لوحدهن، بل هو نضال يشمل النساء والرجال معا، ويسعى إلى إنقاذ النساء والرجال معا من نفس النسق الجندري السالب (aliénant).
من هذا المنطلق، يصبح الالتزام النسَوي الرجولي، تلك الظاهرة الدالة سوسيولوجيا، هدفا ينبغي السهر على تحويله إلى معيار عربي جديد في نموذج عربي تنموي جديد في إطار عقد اجتماعي عربي جديد.
*مؤمنون بلا حدود