عيد الخسارات والإلهاء

عيد الخسارات والإلهاء
الرابط المختصر

 

خطباء يعتلون المنابر للحديث عن التسامح ووحدة الصف، ويصرون على اختتام خطبهم بالدعاء لطائفتهم وفرقتهم الناجية وزعيمهم السياسي الأوحد، في دول تعيش حروباً أهلية منذ سنوات، وأخرى يخبئ أهلها أحقادهم إلى لحظة انفجار مقبلة.

 

ملايين الفقراء يفترشون أبواب المساجد ليتسولوا قوت يومهم، منتظرين انتهاء الخطب التي تمنيهم بالجنة، بينما هم يحلمون بجنتهم الموعودة على الأرض، وحياة تعيد إليهم كرامتهم المسلوبة.

 

يصطف المصلّون بعد صلاة العيد لتقبّل التهاني والتبريكات بـ"عيد" يمنح واقعهم معنى، وأخبار القتّل لا تتوقف في سوريا والعراق وليبيا، وفلسطين تشكو ارتهان أبنائها إلى لعبة المحاور التي أنهكت المنطقة، وشهداء اليمن يصعدون إلى سماء لا تصنفهم طوائف ومذاهب.

 

مصر تغرق في حيرتها والغياب، وأهل الكنانة يبحثون عن "العيْش" وأمنياتهم المسروقة التي يتاجر بها أدعياء باسم الوطن أو الدين، فتواسيهم أناشيد أحمد التوني وياسين التهامي وأغاني الصبر، والخليج ينام على سنين من الفتنة وحصاد المر.

 

لا ينتظر المعيدون سوى مقابر فتحت أبوابها ذلك اليوم، لتحتضن نظراتهم الساهمة إلى ما ذبل من ريحان زرعوه العام الفائت، ومناجاتهم لأحبتهم الراحلين تسكنها أسئلة عن الموتى الحقيقيين والأحياء المفترضين.

 

كليبات الأغاني "العصرية" تمتزج بأصوات التفجيرات والمفخخات في عواصم عربية على الفضائيات وفي الواقع، وأولادٌ يتحلقون حول أب يعانقهم لعلهم يتناسون خيبات أملهم باقتناء ثياب تركها معلقة على فاترينات المحلات.

 

تبدأ حفلة النفاق برسائل متبادلة بين رؤساء وملوك يتمنون حياة أفضل لشعوبهم، وعيداً يذيب الخلافات "العابرة" بينهم، والمذيعة لا تزال تتلعثم وتخطئ في اللغة.

 

يتابع المشاهدون آخر حلقات مسلسلات رمضانية استثمرت الإرهاب والمشاكل الداخلية ببلداننا في دراما مبتذلة تسعى إلى جذب الإعلانات، وتكريس الانحيازات السياسية لمنتجيها، وهمها الأول تسطيح أزماتنا جميعها وتشويش ذاكرتنا عبر تغييب العوامل الأساسية التي أوصلتنا إلى الخراب والانحطاط الذي نحن فيهما، والثرثرة والاستعراض فوق آلامنا ونزفنا.

 

ينتصف النهار بزيارات الأهل والأصدقاء المنشغلين بنقاشات تبدي انعدام ثقتهم بالدولة ومؤسساتها وقلقهم المتزايد على مستقبلهم؛ مفتتين قبائل متناحرة: عنف سلطات تدعي حماية الأوطان، وعنف ميليشات تتذرع بالدفاع عن الدين، وعنف مجتمعات تنقرض بجهلها.

 

ويمنحون أنفسهم استراحة لمشاهدة وعاظ دين، ورجال سياسة وفكر وفن يتنكرون في زي دعاة، ويبشرون كلهم بمستقبل واعد على يد زعامات أقامت لهم هذه المنابر الإعلامية من أجل تسويق "الوهم".

 

وفي المساء تجني أرباح العيد شركات الاتصالات، وسلاسل المطاعم العالمية، ومتاجر الألبسة ذات الماركات الشهيرة، والفضائيات الدينية والترفيهية، ومكاتب السياحة والسفر، والأنظمة التي تتقن فن الإلهاء.

 

وسينام يتامى، وأرامل، وذوو إعاقة، ولقطاء، ولاجئون، ومغتربون، وعمّال، وعاطلون عن العمل، وجنود في ثكناتهم، وهم يعدّون خسائرهم وخيبات الأمل، وينشدون عيداً يخلصهم من الأكاذيب.

محمود منير: كاتب وصحافي. محرر “تكوين” في عمان نت.

أضف تعليقك