عن المزاد العلني لبيع شقّة مي زيادة

عن المزاد العلني لبيع شقّة مي زيادة
الرابط المختصر

 

 

 

انشغلت الأوساط الثقافيّة مؤخّراً بقضيّة المزاد العلنيّ الذي سيعقد لبيع شقّة الأديبة الفلسطينيّة اللّبنانيّة مي زيادة في القاهرة، بممتلكاتها الثريّة التي تشكّل جزءاً من تاريخ الثقافة العربيّة منذ نهايات القرن التاسع عشر وبديات القرن العشرين.

 

بدأت الحكاية بخبر بل بتدوينة نشرها أحد الصحفيّين المهتمين بالوثائق والمخطوطات على الفيسبوك، إذ أعلن أنّه مدعو لحضور مزاد مغلق لبيع شقّة مي زيادة في شارع علوي، وسط القاهرة، بجانب مبنى الإذاعة القديم،بمقتنياتها التي عاينها شخصيّاً فوجدها مكدّسة في صناديق كرتونيّة فيها أوراقها، ومكتبتها، ومخطوطاتها، وما يربو على ألفي صورة تجمعها بأهمّ الشخصيّات الثقافيّة والاجتماعيّة والسياسيّة المصريّة، فضلاً على رسائل كثيرة بينها وبين نخبة العصر من المثقفين كرسائلها مع العقّاد وجبران، وكذلك رسائلها مع أصدقائها، وفواتير علاجها، ووصفات أدويتها وتقاريرها الطبيّة، وشهادات وفاتها، وقد أشار المعاين إلى أنّ ثيابها قد أكلها العثّ، في حين أنّ كتبها وأوراقها، وكذلك أحذيتها وحقائبها  في حالة ممتازة.

 

التقت جموع المهتمين في العنوان المحدّد؛ إعلاميّون، وجامعو التحف، كما سارع مندوب وزارة الثقافة للحضور وحسم الموقف، وذلك  نتيجة لنداءات المثقّفين المصريين التي كانت عالية وسريعة، للحفاظ على تاريخ مصر.

 

ولدت مي زيادة في الناصرة 1886، وتوفّيت في القاهرة 1941، وكانت ابنة وحيدة ومدلّلة. درست التاريخ والفلسفة في جامعة القاهرة حيث استقّرت عائلتها، وأتقنت تسع لغات، وكانت تركب الخيل، وأكثر ما اشتهرت به كتابها "باحثة البادية"، الذي وضعته بالعربيّة، وكذلك مراسلاتها مع جبران خليل جبران، لكنّ لها كتباً أخرى بديعة، من مثل ديوانها الشعريّ الذي نشرته بالفرنسيّة، بعنوان "أزاهير حلم"، ولها "بين المدّ والجزر"، و"الحبّ في العذاب"، ولها رواية رومانسيّة متماسكة البناء نقلتها "بقلمها إلى العربيّة بعنوان "رجوع الموجة" تتقاطع فيها مع فلوبير في "مدام بوفاري".

 

كتبت الدكتورة سلمى الحفّار الكزبري عن  حياة مي زيادة بعدما جمعت أوراقها من بعض الورثة  في العام  1987 وذلك في كتابها "مي زيادة أو مأساة النبوغ"  كما قامت بجمع رسائل جبران إلى مي زيادة ونشرتها -بالاشتراك مع الدكتور سهيل بديع بشروئي- تحت عنوان "الشعلة الزرقاء" في العام 1979، وأصدرت "رسائل مي زيادة إلى أعلام عصرها" في العام 1982 .

 

في كتابها القيّم "المرأة العربيّة في القرن التاسع عشر" الصادر عن مديريّة الثقافة في أمّانة عمّان الكبرى 2011، عقدت الدكتورة هند أبو الشعر فصلاً على مي زيادة بوصفها مفكّرة ومنظّرة، وقد جمعت وثائقها مقالات وخطباً ومحاضرات من أعداد صحيفة المقتطف التي أنشأها يعقوب صرّوف. جهد كبير قامت به الدكتورة أبو الشعر إذ وضعت المتلقّي أمام النتاج الفكريّ للكاتبة بموضوعيّة رصينة بعيدة عن  دعاوى التحدّي النسقيّ للمجتمعات الذكوريّة التي كثيراً ما توسم بالمتخلّفة. إنّ الاطّلاع على هذا الكتاب سيجعل المتلقّي يغيّر كثيراً من آرائه حول طبيعة تلك المرحلة من تاريخ الثقافة العربيّة التي لعب بها إعلام تجاريّ يفتقر إلى المعرفة التاريخيّة، إذ كتبت مي زيادة عن المرأة والتمدّن، والمساواة، والطبقيّة، والديمقراطيّة، والاشتراكيّة الثوريّة، والفوضويّة، والعدميّة، وانتقدت أفلاطون، وانتصرت لرؤية شكسبير.

 

عشاق ميّ كانوا كثراً، التبس عليهم حضورها الثقافيّ بشخصيّتها الإنسانيّة العميقة، وبروح المرأة الأخّاذة فيها، وبحسن تكوين وجهها وجسدها، وكان معظمهم من روّاد صالون الثلاثاء الذي عقدته في دارها، وضمّ النخبة من المثقفين والمفكّرين من مثل أحمد لطفي السيّد، ومصطفى عبد الرازق، وقاسم أمين، وهدى شعراوي،وعبّاس محمود العقّاد، وطه حسين...لكنّ مي أحبّت جبران وحده، وأحبّها جبران حبّاً عظيماً، ولم يلتقيا سوى في مراسلاتهما التي استمرّت عشرين سنة، ولم تكن رسائلهما مجرّد معارض لبثّ الأشواق، بل كانت إشارات ثقافيّة دالّة على روح العصر وخريطته الفكريّة، فهي تفيض بشرح المفاهيم والمعاني، ونقد النصوص والمنتجات الأدبيّة والصحفيّة.

 

بعد وفاة والديها دخلت في اكتئاب حاد، حوّلته وفاة جبران عام 1931 إلى حالة مرضيّة، فاعتزلت العالم، ولجأت إلى أقارب لها في لبنان، طمعوا في إرثها، فأدخلوها بما نسمّيه اليوم مصحّة نفسيّة، لكنّها كانت في الواقع  مشفى للأمراض العقليّة. خرجت منه بعد حوالي ثلاث سنوات بوساطة صديقها أمين الريحاني، ثمّ عادت إلى مصر لتستأنف حياتها في الشقّة التي عرضت منذ أيّام للمزاد العلني.

 

أمّا عن آخر أخبار المزاد، فقد التقى المهتمّون عند العنوان المحدّد، ولم يجدوا شيئاً، وتعدّدت الأقوال في أنّ ميّ كانت قد سكنت في أكثر من شقّة في القاهرة خلال حياتها المضطربة بعد فقد بيت العائلة الذي كان فيلاّ في شارع عدلي، وقيل أيضاً إنّ المزاد قد تمّ إلغاؤه أو التعتيم عليه كي يتقاسم مقتنياته بعض التجّار الأثرياء، بعيداً عن سلطة الدولة ووزارة الثقافة ووسائل الإعلام، وقيل أيضاً إنّ الصفقة تمّت وانتهت في الظلام، وستخرج المقتنيات بعد حين، وسيأتيك بالأخبار من لم تزوّد!

 

د. شهلا العجيلي: روائيّة، وأكاديميّة، أستاذة الأدب العربيّ الحديث في الجامعة الأميركيّة في مادبا. لها في الرواية “عين الهرّ” الحائزة على جائزة الدولة التشجيعية 2009، و”سجّاد عجميّ”، و”سماءٌ قريبة من بيتنا”.