عامر البشير.. حديث متأخر عن قطاع النقل العام
سبحان الذي يوهب الحكمة لمن يشاء من المسؤولين! خصوصاً أولئك المفعمين نشاطاً وحيوية بأُخَرةٍ ممن تمّت تنحيتهم عن مواقع المسؤولية فنحن في بلد قد منَّ الله علينا فيه بالكثير من الرجال المدّعين الحكمة، لكن، بأثر رجعي، فنذروا أنفسهم للسير في دروب الموعظة الحسنة حيث لم تنفجر مواهبهم إلا عندما أخلوا مواقعهم الوظيفية وجلسوا في البيوت وصاروا عرضة للملل وعقد التقاعد، فبدأوا حينها فقط رحلة التأمل والتفكير والتنظير، ثم رشق العالمين بالأفكار الثورية الإصلاحية.
المتأسف عليه أن هذا "الانفجار العظيم" للإبداع، وهنا لا بد من التنويه إلى أنه اكتسب صفة العظمة لأنه كان ينحصر بالقيمة الصفرية أثناء وجودهم في المناصب، نعم؛ هذا الانفجار الأعظم لا يحدث إلا حين لا ينفع التنظير وتكون "الطيور قد نهبت أرزاقها وطارت"، أو حين تنجح العملية الجراحية لكن بموت المريض لكثرة ما أثخن به جسده من جراح.
المواطن الأردني، ولكثرة ما مرَّ عليه من تصاريف الحكومات وحكمائها، انصرف للاقتصاد في ردود الأفعال، فصرف أمثالاً تصلح لأكثر من زمان ومقام ومكان، مثل القول المرسل لأكثر من غاية مستهدفاً فلسفة المتفلسفين؛ "الحكي ما عليه جمرك" والذي لا بد من استحضاره في حالة الحديث عن الحكماء بأثر رجعي من المسؤولين.
مشاكل قطاع النقل المزمنة، والمستعصية على الحلول التقليدية، تحتاج إلى معالجات استراتيجية، والابتعاد عن أساليب الحلول المؤقتة التي تُرحّل الأزمات فقط، فالمشكلة تتعلّق الآن بالطرق، وكثرة السيارات الخاصة، وتردي وسائط النقل العام، وأزمة الثقافة الجمعية العاجزة عن التعامل الصحيح مع آداب الطريق وحقوق الآخرين.
لسنا اليوم بحاجة إلى إبداعات المسؤولين السابقين ممن تسببوا في المشكلات المتحققة بسبب ما تبنوه وما رسموه من سياسات، نقول ذلك مع إدراكنا أن ذلك الجيل من الساسة والإداريين قد مأسّسوا آليات تدمير الصف الثاني من القيادات والإداريين سعياً لتخليد طبقتهم السياسية في مواقع المسؤولية، أو بابتداع التداول الغريزي للسلطة وذلك باعتماد مبدأ التوريث السياسي عبر تشكيلات ومنظومات شلل المصالح التي تقوم مقام الحكومة الخفية.
يتوجّه المهندس عامر البشير بحديثه للمواطن عبر مقالة نشرها في موقع عمون الإخباري، فيسأله إن كان يريد أن يصل إلى عمله بيسر وسهولة من دون تنغيص الأزمات، وكأن المواطن هو من خطط وأدار ورسم السياسات أو حتى كأن الحكومات كانت تستأنس برأية في مثل هذه الأمور، وبرغم من كل ما تقدم، لا بد أن نعترف أن البشير أثارَ في مقالته نقاط وجيهة أدت إلى وصولنا إلى ما وصلنا إليه، مثل؛ الحكومات تعاملت مع مشكلات قطاع النقل من زاوية مشاكل المالكين لوسائط النقل لا من زاوية ما يقدمه هذا القطاع من خدمات، إضافة إلى إشارته المهمة إلى أن الحكومة دمرت قطاع النقل العام بالتنفيعات التي منحتها للمتنفذين أو أقاربهم من رخص للتاكسي أو خطوط الباصات ما جعل الفوضى تعصف بهذا القطاع وتسببت بتوجه غالبية الأردنيين لامتلاك وسائل النقل الخاصة، ما جعل عمان من أكثر المدن اكتظاظاً بالسيارات.
لكن هذا لا يكفي؛ فالمطلوب اليوم اتخاذ الإجراءات المستعجلة المناسبة للحدّ من الأزمات، والارتقاء بمستوى خدمات النقل العام، وحلّ مشاكل الطرق، ولعل أمانة عمان أول من يتحمل المسؤولية في هذا المجال، عبر إعادة توجيه الشوارع بحيث تكون باتجاه واحد، وإلغاء الرخص الممنوحة للمحال التجارية المقامة على الشوارع الرئيسية، أو إجبارها على إنشاء مواقف خلفية.
أما على المستوى الاستراتيجي، فيجب البدء في التخطيط لبناء شبكة مواصلات سكك حديد وقطارات أنفاق وأخرى كهربائية، واتخاذ الإجراءات المناسبة جمركياً وضريبياً للحد من امتلاك المواطنين للسيارات الخاصة، وصيانة وإنشاء الطرق التي باتت تتسبّب بوفاة الكثير من المواطنين بحوادث السير.
المهندس عامر البشير.. كُنتَ نائباً في البرلمان ومسؤولاً في أمانة عمّان، لما لم تطرح هذه الأفكار هناك، عندما كنت على رأس عملك وبيدك القرار؟!
محمد قبيلات: كاتب وصحافي أردني.