ليس لدي شك في أن قرار طرد سفير النظام السوري، وهو القرار الذي تأخر كثيراً، قد لقي استحسان الأكثرية الكاثرة من المواطنين الذين ضاقوا ذرعاً بتهجمات من يفترض به أنه يحمل درجة سفير، سواء على قادة الرأي العام والرموز السياسية، أو على مؤسسات الدولة التي تستضيف أكثر من مليون إنسان شردهم القصف والقتل والدمار؛ إذ كان السؤال الدائم: من أين لهذا البلد السيد الحر المستقل كل هذه القدرة على الحلم والصبر والاحتشام، وإبداء التسامح مع تجاوزات دبلوماسي فظ ليس له من عالم الدبلوماسية نصيب؟!
إذ بقدر ما كان صمت الدولة حيال تصرفات الجنرال بهجت سليمان مثيراً للامتعاض، لدى من كانوا يستهجنون مواصلة غض الطرف عن إساءاته المتكررة، بقدر ما جاء قرار طرده خلال 24 ساعة، أي إلحاق الإهانة به وفق الأعراف الدبلوماسية، باعثاً على الابتهاج بانقشاع هذه السحابة السوداء التي كانت تعكر صفو سماء عمان الجميل، الأمر الذي يدعو إلى توجيه الشكر إلى وزير الخارجية، وكل المراجع السيادية التي اتخذت مثل هذا القرار غير المسبوق طوال تاريخها السياسي المتسم بالتسامح والاعتدال.
وأحسب أن قرار طرد سفير بشار الأسد كان صعباً، ومحل نقاش داخلي طويل لدى متخذي القرارات المركزية، ليس خشية من ردة فعل نظام أمني درج فيما مضى من زمن على إرهاب جيرانه والتهويل عليهم بالويل والثبور، وإنما لأن مثل هذا القرار الاستثنائي، لا يتساوق مع تقاليد أردنية قومية نابعة من الحرص على بناء أعرض الجسور مع كل الأشقّاء، ولا يتطابق مع تراث دبلوماسي خاص، متميز بسعة الصدر والتهذيب وأخلاق الملوك، الأمر الذي أثقل على أولي الأمر اتخاذ قرار خارج عن كل مألوف ومستقر في أعراف قوم يحسنون وفادة الضيوف.
لقد استشكل على البعض فهم خلفية سفير الأسد، حين كان يصول ضد شخصيات مرموقة ونواب محترمين، ويجول مفتئتاً على مؤسسات الدولة المضيفة، وغامزاً من قناة وزراء وقادة أحزاب وكتّاب ومثقفين كرام، ويقارف بحق البلد عدواناً لفظياً سافراً، متطاولاً ومتهماً ومبتزاً، على نحو لا يجرؤ عليه سفير.
ولعل مفتاح فهم هذه الخلفية الاستعلائية كامن من تجربة رئيس فرع الأمن السياسي هذا، خلال عهد الوصاية على لبنان؛ حيث كان أركان نظام الأسد من طينته، يستبيحون كرامات الناس، ويقبضون على الأنفاس، ناهيك عن مقدرات البلاد والعباد؛ لا يترددون في خطف معارض أو قتله غيلة، ولا يتعففون عن ارتكاب كل شائنة في البلد الذي اعتبروه مزرعة بلا سياج. الأمر الذي ملأ ذهنية السفير بفيض من هذه الثقافة الابتزازية، وأكسبه كل هذا التعالي والعجرفة والغرور.
وهكذا فقد جاءنا رجل الأمن الذي استرضاه بشار الأسد بمنصب سفير، بمثل هذه الذهنية العنترية، وهذه التربية الاستبدادية، من دون أن يدرك أنه هنا في هذا الحمى الأردني المنيع، وليس في ذلك البلد الصغير المستباح؛ ومن دون أن يعرف أيضاً أن بعض الطيور جوارح لا يؤكل لحمها المرّ، الأمر الذي أوقعه في شر أعماله المشينة، وتسبب له بهذا الطرد المهين على رؤوس الأشهاد.
ختاماً، ينبغي توجيه تحية فوق شخصية، ملؤها الاعتزاز بأصحاب هذا القرار الشجاع، من دون أن نتساءل كثيراً عن مغزى التوقيت، أو عن ماهية النقطة التي ملأت الكأس وفاضت بها النفوس الأبيّة، ومن غير أن نتزيّد في الاستنتاج عما يحمله هذا القرار الملبي لأوسع قطاعات الرأي العام، المروَّع ليس فقط من ارتكابات سفير لا يحترم التقاليد، وإنما من استمرار سفك الدماء واسترخاص قيمة الحياة على أيدي نظام لا مثيل لما قارفه في العصر الحديث.
الغد