ضربة المنجل
على الرغم من أنّ الذاكرة البشريّة لا يعوّل عليها كثيراً، أثبتت أنّها أصدق من التاريخ المدون، فأخطاؤها غير مفتعلة، وغالباً ما تكون بسبب انتشاء الخيال. لعلّ أثر تلك النشوة يربأ بنا عن وصفها بالكذب، في حين تعجّ السرود التاريخيّة بالتدليس.
حينما تروغ الذاكرة لتمنح ممرّات لبعض نتاج المخيّلة، ينشأ ضرب من الكتابة الروائيّة، سيحفظ حدود النوع عبر حضور بطل إشكاليّ، ثمّ سينفلت من أيّ شرط روائيّ آخر، إذ ينبني النصّ هنا على التاريخ الفرديّ للروائيّ/ الراوي، والذي يحيل إلى تاريخ اجتماعيّ سياسيّ بالضرورة، أي يصنع الذاتيّ، ويأتي ذلك معاكساً لما ساد، إذ طالما طغى التاريخيّ السياسيّ على خريطة الأفراد الذاتيّة.
باتالذاتيّ اليوم هو المرجعيّ لا التاريخيّ، وهنا لا يحقّ لأحد أن يكذّب الروائيّ لأنّه في النهاية يكتب روايته لا روايتكم، ووثيقته، إن شاء، حيثلا كاتب بالعدل ولا شهود! وذلك النصّقد خضع لضربة المنجل التي فصلت بنيته عن حُميّا الحدث التاريخيّ، فاستعاد بذاتيّة مفرطة ظروف إنتاج مادّته التاريخيّة والمتعلّقة بالحرب.
وضربة المنجل هو التعبير الذي استعمله تشرشل لوصف عمليّة سقوط فرنسا، إذ نجحت القوّات الألمانيّة في استدراج الحلفاء نحو الشمال، إلى بلجيكا، ودخلت عبر غابة أردين بقوّات نخبتها المدرّعة إلى فرنسا، قاطعة أيّة إمدادات يمكن أن تصلهم.
يأتي صوت "باتريك موديانو" في “دفتر العائلة” من البعيد، من غوايات الحرب العالميّة الثانية، لذا نسمعه صوتاً هادئاً بلا ضجيج القنابل والطائرات، صوت يشبه موسيقى الرجوع الأخير. لا يهمّه ما كتبت الوثائق، ما يهمّ هو معايناته الشخصيّة، طفلاً، ويافعاً، وأباً. لقد غيّرت الحرب مصيره كما فعلت مع ملايين البشر، غيّرت المنزل مراراً، وكذلك عادات الطعام، وأشكال الحبّ...وهناك في أوربة التي جعلتها الحرب صغيرة جدّاً، التقى بأشخاص كثر ارتبطوا بعلاقات سببيّة تراجيديّة وبوليسيّة غالباً، من الإسكندريّة إلى باريس، فـجنيفا، فحوّلهم موديانو إلى شخصيّات روائيّة: فنّانون مشهورون، وجواسيس، وباعة متجوّلون، وملوك منفيّون...إنّها الحرب التي تخلق صدفاً تنسى بعد حوالي ثمانين عاماً أن تشكّك في مصداقيّتها، فتتقبّلها مع غبطة المعرفة!
تصير الوثائقيّة واحدة من جماليّات التلقّي، ويصنعها هنا كلّ من الاسم الحقيقي لموديانو، الروائيّ/ الراوي، مثلما تصنعهابعض الشخصيّات التاريخيّة ذات المصير الدراميّ كشخصيّة الملك فاروق. لعلّ هذه الصياغة الروائيّة التي تقوم على الذاتيّ المشغول بشيء من الخيال والوثيقة صارت أقرب إلى القرّاء، فهم يحبّون التلصّص، وينتابهم فضول تجاه خصوصيّات الآخرين، مهما ادعوا الموضوعيّة والبراءة. لكن لننتبه جيّداً! هذا النوع من الكتابة لا يصلح للجميع، ولا يكفيه عمق التجربة، وفرادتها، والوعي بها، فهو يحتاج أيضاً إلى نجوميّة الفرد ذاته، أو ألق العائلة، أو ألق الشكّ والتباس المواقف في وجه يقين القدّيسين، لذا فإنّ كلًّاً من ذاكرة قاطع طريق عاديّ، وذاكرة أمين السلطة، ومعهما أصحاب “الذاكرة القابضة”، لا تصلح لهذا النوع من الكتابة.
بالمناسبة: الذاكرة القابضة هي ذاكرة أولئك الذين يقبضون ثمن كلّ موقف يتّخذونه، اجترحتها تفعيلاً لآليّة التطوّر الدلاليّ للعربيّة، والتي تنقل المفردات والتعابير بين الحقول الدلاليّة للغة، من الاقتصاد إلى الاجتماع.
يبدو ما كتبه "موديانو" في (دفتر العائلة) مجانباً للادّعاء أو التجميل، إنّها محاولة للتحرّر من ذلك السواد الذي تتركه الحرب في الذاكرة، والذي يبقى رغم مرور الزمن، فيخرج على دفعات، ويتوزّع على تاريخ كتابة الفرد الواحد، ثمّ على تاريخ الكتابة الذي يصنعه جيل، فأكثر.
الحرب تعيد تشكيل الخرائط السياسيّة، وتشكيل خريطة الأولويّات لدى الفرد، يقول "موديانو" عن الحرب العالميّة الثانية: "إنّها كومة السماد التي طلعت منها"، أبي يقول أيضاً: إنّ أهمّ مولّدين للرومانسيّة: الحرب ورقصة الفالس! ولا أعرف أن أنسب هذا القول سوى لأبيفي حين كان له قائل آخر، لأنّ أبي رومانسيّ بمفهوم المدرسة الرومانسيّة الإنجليزيّة، ويحبّ الفالس كثيراً، وعاش تحت وطأة الحرب.
أسأل دائماً إذا ما كانت الحروب يشبه بعضها بعضها الآخر، وعمّا إذا كانت المسافة الزمنيّة فقط هي التي حوّلت علاقتنا مع الحرب العالميّة الثانية إلى مسافة جماليّة، في حين أنّها حرب تشبه حروبنا اليوم، أو أيّة حروب أخرى، فأعود لأقول: لقد منعت قوّة الجمال هتلر النازيّ، الذي كان رسّاماً فاشلاً، من قصف باريس،فهل قرّر هو ذلك بنفسه بسبب رعدة أصابته تحت سمائها، أم أنّ رجلاً آخر أكثر عقلانيّة فعل ذلك مثل الجنرال تشولتيتز المكلّف بالعمليّة التي كانت ستأتي ردّاً على تدمير برلين، والذي تأكّد من جنون هتلر؟ أم هو الجنرال راؤؤل نوردلينج القنصل السويديّ الذي تدخّل لوقف ذلك الدمار من أجل الجمال، وربّما تكون امرأة ما وراء ذلك كلّه!
د. شهلا العجيلي: روائيّة، وأكاديميّة، أستاذة الأدب العربيّ الحديث في الجامعة الأميركيّة في مادبا. لها في الرواية “عين الهرّ” الحائزة على جائزة الدولة التشجيعية 2009، و”سجّاد عجميّ”، و”سماءٌ قريبة من بيتنا”.