صفحة من الجحيم

صفحة من الجحيم
الرابط المختصر

لقد شارف الزيت في قنديل الكون على النفاد، هذا ما يقوله الماورائيّون، ويقول علماء الطاقة إنّ الأبناء قد استنزفوا ثروات الأمّ الأرض، فالنفط سيقضي قريباً، والحروب المقبلة ستكون من أجل المياه، وبعدها سيفنى العالم.

إنّ الكوارث التي انتابت البشريّة عبر تاريخها كلّه، وجدت من أنذر بوقوعها، وحذّر من مغبّتها، لكنّ أحداً لم ينصت، فالمتنفّذون يمضون إلى غاياتهم، التي يعرف الشجعان جيّداً أنْ لا شيء يوقفها، ومع ذلك يقومون بالمواجهة، فتلك الطريقة الوحيدة التي يعرفونها، أمّا الآخرون فيستسلمون لهذا الصراع، وعلى الرغم من ذلك كلّه يستمرّ الناس في حياتهم، يمارسون زهوهم بصحتهم، وأموالهم، وجمالهم، وبقدرتهم على الاحتفاظ بشيء من رواتبهم إلى نهاية الشهر، وربّما بقدرتهم على الابتسام فحسب.

يعبّر البدائيّون عن الاحتفال بالحياة بإطلاق النار، والشغوفون بالسكينة يقدّرون فكرة الالتزام بالعائلة، والذين عرفوا طريق الثقافة سيحتفلون بكينونتهم بحضور عرض  مسرحيّ، أو بقراءة كتاب، أو بسماع  موسيقى تنتمي إلى نسق آخر، ولا يكتفي عشّاق العقل من جدلهم البيزنطيّ، إنّهم يطلقون عباراتهم كما يراق العسل من الخوابي، لا يضّرون أحداً، ونادراً ما ينفعونه أيضاً، ورغم امتلاكهم القدرة على تقليب الفكرة يبقون عبيدها، مثلما يبقون معجبين بذواتهم حدّ الإفراط أحياناً.

كانت تلك صفحة من الجحيم الذي نعيش فيه، ولم نعرف أنّه بارح مداره، مذ كتب آرثر رامبو عنه فصله الشهير، ورسم فيه باباً موارباً للخلاص:

دعوت الجلادين، وأنا أحتضر، لكي أعض أعقاب بنادقهم.

ناشدت الكوارث أن تخنقني بالرمل والدم.

الشقاء كان إلهي. أُضجعت في الوحل، جففت نفسي في هواء الجريمة.

وتحايلت على الجنون.

والربيع حمل إليّ ضحكة المعتوه المريعة.

هكذا، وقبل وقت قليل، وأنا من الموت قاب قوسين أو أدنى، راودني الحلم أن أعاود البحث عن مفتاح تلك الوليمة الغابرة، التي ربما جعلتني أستعيد الشهية.

المحبة هي ذلك المفتاح

إذن، ثمّة سكّان من السماء يرسلهم الله، ليزيّتوا سراج القنديل، فلا ينطفئ، وليرمّموا شيئاً من خراب الأرض، وأنا شخصيّاً تابعتهم منذ أيّام في برنامج على إحدى القنوات الفضائيّة، كان يتحدّث عن عائلات تبنّت أطفالاً بلا أهل.

تقول السيّدة التي تبنّت طفلتين أختين، إحداهما كانت وقتها في عامها الثاني، والأخرى كانت قد  بلغت يومها الأربعين:

  • لم يكن لديّ أطفال، ولا أؤمن بفكرة دفع المال للإنجاب، فأخذت البنتين من أحد الأديرة، ونحاول أنا وزوجي أن نؤمّن لهما حياة مستقرّة، وسعيدة.

البنتان داكنتا البشرة، وملامحهما إفريقيّة مهجّنة، في حين أنّ الأمّ بيضاء، وكذلك الأب، وذلك كان مدعاة لتساؤلات الناس، الذين يصرّ بعضهم على أن يسبّب البؤس لبعضهم الآخر، مهما حاول سكّان السماء مداواة جراح أذيّتهم. لقد قال زميل في المدرسة للبنت الكبرى: أنت سوداء، وأمك وأبوك ليسا كذلك، لابدّ من أن تكون أمّك قد غطّستك في وعاء من البراز..

بكت البنت وسألت أمّها عن فرق اللّون، فكانت فرصة لمصارحتها بالحقيقة، والحديث الذي لا مفرّ منه عن الأصل، لكنّ المحبّة أرشدتها لتقول لها: لقد غطّستك في وعاء من الشوكولا، لذلك صرت حلوة إلى هذا الحدّ! حزنت البنت كثيراً، إنّ شيئاً في جذورها يؤلمها، لكنّها كانت تشعر بالأمان، والمحبّة، والعطف.

أولئك هم سكّان السماء الذين يحملون عنّا خطايانا، ففي حين تقترف الغالبيّة القتل، والتنكيل، والجشع، والتمييز، والتعنيف، يأتي هؤلاء، أيّاً كان دينهم أو طائفتهم، ليمنحوا الحياة لطفل بلا ذاكرة أموميّة ولا أبويّة، فكأنّما أحيوا الناس جميعاً، ذلك أنّ الحياة حينما تتعسّف تأخذ الآباء والأمّهات، ولولا قسوة هذا الفقد لما جعل الله بعض أنبياءه أمثولات، وليفكّر كلّ بطفله حين يكون بلا حمايته الشخصيّة.

إنّ الناس الذين يحمون أطفالاً ليسوا من صلبهم، وعلى غير الطريقة الهوليوديّة، يمثّلون العطاء الإلهيّ، ويغفرون تجنّيات الحياة، وخطايا بشر غيرهم، فما يفعلونه ليس واجباً بيولوجيّاً اجتماعيّاً، بل نبل في حدّه الأقصى. وفي حين يصرّ الآخرون على أن يأخذونا معهم في رحلات متواترة إلى الجحيم، فيقتلون الناس، وييتمون الأطفال ليجدوا لهم مقعداً في السماء، يترك سكّان من السماء مقاعدهم، ليرمّموا الخراب الذي تسبّب به أهل الجحيم.

 

  • د. شهلا العجيلي: روائيّة، وأكاديميّة، أستاذة الأدب العربيّ الحديث في الجامعة الأميركيّة في مادبا. لها في الرواية "عين الهرّ" الحائزة على جائزة الدولة التشجيعية 2009، و"سجّاد عجميّ".