صباح الخير يا مُعلّم!
كلّ المقالات لكم، وهذا المقال لي!
إذ من حقّ كاتبة مقالات أسبوعيّة، تطوّف بكم بين حكايات التاريخ، ومحدثات الراهن، ورؤى القادم وأحلامه، أن تكتب عن شيء لصيق بها، ومن حقّها أيضاً أن تستمعوا إلى بوحها!
هذا المقال، جعلته تحيّة متواضعة إلى معلّمي، الأستاذ الدكتور فؤاد المرعي، أستاذ النقد الأدبيّ الحديث وعلم الجمال في جامعة حلب، الذي شرفت بأن أدرس عليه في السنة الرابعة من الليسانس، وأن يشرف على رسائلي الثلاث، في دبلوم الدراسات العليا، وفي الماجستير، وفي الدكتوراه.
لا أعرف تحديداً مواليد الدكتور فؤاد، لكن أعرف أنّه عتيق جدّاً، من عصر الملاحم، والشعر الشفاهيّ، الذي يجده أشبه بأناشيد حرب، يوقّع الجنود على أوزانه خطواتهم، ويستثير بعضهم به حميّة بعضهم الآخر، وقد يعود إلى زمن هوميروس، ففي محاضراته التي استمعت إليها طويلاً، كان يحكي عن آخيل، وهكتور، وبريام، وأوديسيوس، وكأنّه كان معهم في مغامرتهم الطرواديّة، يسوّغ ما فعلوه دفاعاً عن جمال عالمهم، وقيمه، وانسجامهم معه، مثلما سوّغ لنا التراجيديّ، والدراميّ، والكوميديّ، والمعذّب، دفاعاً عن الفنّ.
لعلّ علاقة الدكتور فؤاد المعرفيّة، والوثيقة بتراث الإنسانيّة، جعلته من أشدّ المتمسّكين بالحداثة، ممّا حيّر كثيراً من التأصيليّين من حوله، الذين عجزوا عن فهم فكرة انتمائه، وعلاقته بالتراث الإسلاميّ تحديداً، لكنّ تفسير تلك العلاقة يغدو بسيطاً إذا نظرنا إلى الأشياء بعين المحبّة، والمعرفة، وإذا قرأنا كتابه "دراسات في الحضارة العربية الإسلامية"، ولعلّ ما مكّنه من الوصول إلى تحقيق المعادلة الصعبة بين التراث والحداثة، تصميماً شخصيّاً وفكريّاً، قوامه البعد عن التطرّف، ونبذ الإقصائيّة، والنزوع باتجاه الوسطيّة، وامتلاك العقل النقديّ، ومحاولة توسيع أفق الرؤية، وتقبّل الجديد، وتطويعه، وذلك كلّه ميراث الفلسفة، وبصمتها في الأداء.
إنّ درسه المتمحّص للاتجاهات الماديّة، بما تؤكّد عليه من التحوّل، والجدليّة، جعله، على خلاف كثيرين من أتباعها، يخلص إلى أن نحبّ ما ألمّ بنا، وأن نؤمن أنّ ما ُنسج لنا من خيط مصيرنا، هو الأنسب لنا، وأن القدر الذي يحدو العقلاء، هو ذاته الذي يجرجر الحمقى، وبذلك الثبات استطاع الدكتور فؤاد المرعي توليد آراء جديدة في أصول الشعر العربيّ ونشأته، وفي الوعي الجماليّ عند العرب، وفي المفاهيم الجماليّة، وفي نشأة الفنون الحديثة، وفي تكوين الشعور القوميّ العربيّ، وفي صناعة أيديولوجيا التنوير في سورية الكبرى، وهي مبثوثة في كتبه العديدة، ومنها "محاضرات في علم الجمال"، و"الوعي الجمالي عند العرب قبل الإسلام"، و"الجلال والجمال"، و"مقدّمة في تاريخ الآداب الأوروبيّة"، و"في تاريخ الأدب الحديث"، و"اللّغة والتفكير"... هذا عدا عن ترجماته عن الروسيّة، وانتقاءاته الأدبيّة التي تشير إلى ذائقة رفيعة.
درس الدكتور فؤاد في جامعة موسكو، منذ زمن طويل، يعود بنا فيه إلى بيلينسكي وتشيرنيشيفسكي، فينقلنا من الأسطورة الإلهيّة إلى أسطورة بشريّة، أنتجها الإنسان الذي بنى الأهرام، والبتراء، وسدّ الفرات، وبذلك يتحوّل الجليل من الإلهيّ إلى الإنسانيّ، عبر الإرادة المتسقة مع الوعي، ومعها تنتقل القيمة من عالم المثل، لتصير اجتماعيّة، ومعرفيّة، مثلها مثل المفاهيم الجماليّة، فهي ليست نتاج خيال أو عقل، بل نتاج ممارسة، وعلينا أن ننال فرصتنا في التفاعل معها، والإسهام في تطويرها بالتجربة، فالوعي الذي يأتي بالتجارب، حتى في علاقتنا مع المطلق، هو الأبقى، والأوثق، وأنّ حياتنا، لاسيّما الإبداعيّة، صيغ مختلفة لانعكاسات الوعي الجماليّ، الذي يُري بعداً رابعاً للوجود، تبدو من خلاله حقوق البشر أنصع، وقضاياهم العادلة أوضح وأحقّ، لأنّها تبعد بعداً شاسعاً عن الادّعاء والشعارات.
التقيت منذ أيّام في جلسة مع أصدقاء، بالناقد الكبير الدكتور جابر عصفور، فحدّثني بزهو عن علاقته بأستاذته الدكتورة سهير القلماوي، وعن علاقتها بأستاذها الدكتور طه حسين، وكيف أنّ قوّة الفكر تورّث، وتُغذّى بالمعرفة، فتصعب هزيمته، شعرت حينها بالغبطة، فكلامه كان ينطبق على علاقتي بأستاذي أيضاً، إذ كثيراً ما أتماهى معه عندما أدخل إلى قاعة الدرس، وأعتقد أنّني هو، وكثيراً ما أخشى من أن أكون ظلاً باهتاً لصلابته في التعامل مع اليقينيّات، وللمعة عينيه حين يدلي طالب برأي مثير، أو فكرة جديدة، ولضحكته الطفوليّة، البريئة، المشتملة على ذكاء الطبيعة البشريّة، التي تقطعها سعلة المدخّن، حينما يتعنّت أحدهم أمامه، متشبّثاً برأي المبتدئين.
لديّ كلام كثير لأقوله للدكتور فؤاد، لكن يغلبني الزمان، والظرف، والصمت الطويل الذي حوّل علاقتي بالذين أحبّهم إلى تأمّل، وإلى امتلاك وجهات نظر تجاههم أكثر من العواطف! سأقول إنّني أفتقد أستاذي كثيراً، أفتقد صالونه الصباحيّ المفتوح لمحبّي المعرفة، والحياة، والنجاح، أفتقد الورقات المطويّة في حقيبته السوداء الصغيرة، التي تحمل تصويباته لآرائي، أنتظرها كلّ مرّة مثل من ينتظر حكماً بإجازة التفكير أو بالامتناع، أفتقد تفانيه اللامتناهي في صناعة شخصيّة الباحث في طلبته، فهو لا يتساهل في المعرفة، ولطالما لجمني، وأعاد إليّ عشرات الأوراق، لكنّه في الوقت ذاته شجّع بعض شطحاتي، ووقف مع نزقي مثلما احتوى عقوق بعض طلبته، إنّه أشبه ما يكون بالجبل، يجلّي القسوة، وبين حجارته ينبت عشب سحريّ، وتتفجّر ينابيع مياه عذبة!
أستاذي الدكتور فؤاد: أطال الله عمرك، وكلّ عام وأنت بخير!
- د. شهلا العجيلي: روائيّة، وأكاديميّة، أستاذة الأدب العربيّ الحديث في الجامعة الأميركيّة في مادبا. لها في الرواية "عين الهرّ" الحائزة على جائزة الدولة التشجيعية 2009، و"سجّاد عجميّ".