شهيد الوطن ، وعلاوة الألف دينار
في بلادنا لا تملك إلا أن تتحول إلى حالين لا ثالث لهما :
إما أن تصير مؤمنا يخترق الحُجُب بشفافية قلبه ، وكأنه يرى عرش ربه بارزا ، وإما أن تصير كافرا متدثرا بالجنون لتبرر كفرك للعالمين .
في بلادنا تسمع العجبَ وترى أعجبَ منه ، ولكنك لا تستوعبُ ، فتمشي بلا وعي ، وتأكل بلا شبع ، وتنام بلا راحة ، وتنفق بلا بركة ، وتخالط الناس بجسدك المنهك ، وقلبك وروحك سابحان في عالم القبور .
نعم سادتي ، إنها حياة الناس اليوم ، حين تنقلب بها المركبة ، فيصبح عاليها سافلها ، ولا يبقى سوى أن نُمطَرَ حجارة من سجيل .. حين يموت الفقير القابض على جمر الانتماء مكسور القلب ، مهضوما ، ويتبغدد اللص القابض على ثروات البلاد ، فيقترف الموبقات ، وصكوكُ الغفران الحكومية له طوع فجوره ، ورهن إشارة طغيانه .
أول أمس مات عامل النظافة معاذ وهدان - رحمه الله - بعد سقوط الحاوية على رأسه ، ولم تتكلف وسائل الإعلام ذكر اسمه على الأقل في تغطيتها للخبر . وليس لأحد دخلٌ بحكم الله وقضائه ، لكن موتا كهذا في سياق ما نحن فيه يعزز عمق الجرح المجتمعي الكبير ...
مات معاذ باحثا عن ثروة من العيش الكريم الذي لا يُضيره قذارة سياقه ، ولكنّ المنايا أراحته من ذلك السياق ، لتبقيه مثالا على البائسين المخلصين . وكأن المتنبي يخاطبه حين قال :
إذا لَم تَجِد ما يَبتُرُ الفَقرَ قاعِداً ...
فَقُم وَاِطلُبِ الشَيءَ الَّذي يَبتُرُ العُمرا ...
هُما خَلَّتانِ ثَروَةٌ أَو مَنِيَّةٌ .....
لَعَلَّكَ أَن تُبقي بِواحِدَةٍ ذِكرا
وتزامن مع ذلك أخبار منح علاوة مستشارة في أمانة عمان بمقدار ألف دينار ، ليصبح راتبها قريبا من ثلاثة آلاف دينار ، لأنها هي التي صنعت من عمان أسطورة الجمال ، وأيقونة الحضارة والرخاء ... وكيف ننكر عليها ونحن نعلم أنها تُنهك كرسيها المريح بساعات الاسترخاء تحت رذاذ مكيف الهواء ، وألطاف التكريم المُغدق عليها من لدن أصحاب المعالي وساسة الملأ ، فثمة بَونٌ عظيم بينها ، وبين ذلك الذي يكنسُ ويلاتنا بصمت ، ويخلص لطهارة يده ، وقداسة روحه ، ليُطعم صغاره من تشققات كفّه ، وحبّات جبينه ...وثمة بَونٌ شاسعٌ بين من يبني البلاد ، وبين من يسفّها وينسفها نسفا ، بين من يموت مخنوقا في عَجاجها ، ومن يتبطّر مشمئزا من أبنائها ، بين من هو مغروسٌ في أعماقها ، ومن هو مدسوسٌ دخيل في طيّاتها .
ليس غريبا ما نرى ، بل نحن الغرباء ، فنحن نحشر رؤوسنا بين أرجل طاولات السادة ، ونشمخ بأنفسنا عند عجلات سياراتهم الفارهة ، فنتطفّل لنسأل ما الذي يجري ...؟
حبيبنا المكافح الشهيد معاذ وهدان ...ما كان يدري أطفالك أنك ستتركهم ليرثوا عنك آلام الحاوية ، وما كانت زوجتك تدري أن مستقبل أسرتها مهدور على أطراف الحاوية ، وما كنّا ندري يوما أننا سنكون بعضَ فضلات وطنية ، في حاوية القامات اللصوصية ، وقد وقعتْ تلك الحاوية على رؤوسنا ، ولكننا ما زلنا أحياء، فليس من صالحها أن لا تجد حشوة تسوّغ لها وجودها ، ورؤوسا تتلقى سقوطها .