في ختام الوقفة الاحتجاجية التي دعت إليها الهيئة الأردنية لنصرة الشعب السوري أمام سفارة الجارة الشمالية قبل ثلاثة أيام، وفيما كنتُ والزميل معن البياري القادم من الإمارات، نغادر ساحة الاعتصام قبيل منتصف الليل، مفعمين بالرضا عن النفس، جراء أداء قسط ضئيل من واجب التضامن (ولو بإضاءة شمعة) مع حماة وأخواتها الباسلات، رحنا نتبادل الآراء والتقويمات حول هذه الوقفة الضميرية، عما اتصل بها من دوافع مختلطة، وسادها من مظاهر حضارية، وفاض عنها من ملاحظات تستحق القراءة.
وبحسه الصحافي المرهف وعين الكاتب الثاقبة، كان أول ما استوقف معن المفعم بالدهشة الدائمة والبراءة الفطرية، هتاف المئات من المعتصمين ضد نفر من بين ظهرانينا ذهبوا إلى دمشق للشد على أيدي النظام البوليسي والتسبيح بممانعته وفنونه القمعية، حيث لاحظ بحق أن نبرة الاحتجاج على هؤلاء كانت أعلى منها ضد النظام نفسه، وكانت تجليات غضبهم إزاء من حاولوا تزوير إرادة شعب مصدوم بصور المجازر المروعة، أشد وضوحاً من تجليات جزعهم حيال قاتلي حمزة الخطيب وليال وإبراهيم قاشوش.
إلا أن أكثر ما أثار الصدمة لدينا، معن وأنا، كان هتاف جمهرة المحتشدين متنوعي المشارب والخلفيات، ضد حزب الله وزعيمه، الذي نحتفظ نحن الاثنين له بإعجاب شديد، حيث بدا لنا لأول وهلة أن مثل هذا الأمر جلل بحد ذاته، وأن ما تسمعه الأذن يكاد لا يصدقه العقل، فرحنا نتبادل الأسئلة الموجعة عن مآلات زعيم حزب كان حتى الأمس القريب موضع فخر الأمة ومحل تقديرها البالغ، ثم هوى من عليائه في النفوس إلى هذا الدرك الذي لا يليق حقاً بمن كانت صوره تعلق إلى جانب صور جمال عبدالناصر، خصوصاً بعد أن حرق الثائرون في المدن السورية أعلام هذا الحزب وصور سيده في الساحات العامة.
ذلك أنه حين يهتف حشد يضم آلاف الرجال والنساء، بين شيب وشبان، من دون اتفاق مسبق أو توجيه من طرف ما، ضد حزب المقاومة الحقيقية ورمزها إلى ما قبل انحيازه إلى النظام السوري المدان على أوسع نطاق شعبي داخل السجن الكبير وخارجه، فمعنى ذلك أن شيئاً كبيراً قد انكسر في فضاء الروح لدى ملايين الناس، وأن وعياً جديداً قد تخلّق من رحم الصدمة والوجع بزيف الشعارات التي تم اختبارها على مدى أشهر طوال، كانت كافية لكشف اصطفاف مذهبي كان يتوارى وراء غلالة رقيقة من الإدعاءات والمزاعم والمراوغات.
لم يتوقف هذا الصديق الآتي لقضاء إجازته السنوية عند حدود مفارقة الهتاف ضد حزب الله، بل راح يمطرني طوال الطريق بأسئلة استفهامية استنكارية تتقاطر وراءها سلسلة جزلة من علامات التعجب الكبيرة، تارة عن ذلك الكاتب الذي لم ينبس ببنت شفة حول المجزرة المتنقلة بين الديار الشامية وكأنها تحدث في بلاد الواق واق، وأخرى عن مثقف أمات ضميره ثم حمل بعضه إلى دمشق للإعلان عن براءته التامة من كل ما كان قد خطه بقلمه في مديح قيم الحرية والديمقراطية، وثالثة عمن لديه كل هذه الجرأة، حتى لا نقول الوقاحة الشبيحية، ليقذف المحتجين أمام السفارة بالحجارة، متسائلاً: هل كانوا حقاً من أمن السفارة؟!
على أي حال، تظل هذه الوقفة الاحتجاجية التي نأمل أن تكون فاتحة لجملة من الفعاليات اللاحقة، التعبير الأبلغ دلالة، والمشهد الأشد صدقية عن الضمير الوطني العام لشعب قال عنه الزميل محمد أبو رمان في كلمته الارتجالية المعبرة أمام الحشود الملتاعة، إنه إذا جرحت حماة فإن السلط تبكي، شأنها في ذلك شأن كل مدينة هنا وهناك، في إشارة إلى روابط الدم والنسب والمشاعر والمصائر والمصالح، وكل تلك الوشائج والأواصر الضاربة عميقاً في الوجدان المشترك لذات العشائر والحمائل والأسر على جانبي الحدود.
الغد