شخصية الدهر

شخصية الدهر
الرابط المختصر

نتيجة عوامل عديدة، ترسخت في أذهاننا قناعة بأن ذكرى مولد النبي الكريم عليه الصلاة والسلام مناسبة دينية محضة، نقرأ عنها بعض القصائد، ونتذكر غزو أبرهة الأشرم لمكة في عام الفيل الذي ولد فيه محمد عليه السلام. وكل هذا معلومات صحيحة، لكن هذه المناسبة وغيرها من المناسبات الدينية لها أبعاد حضارية وثقافية وسياسية، وهي أحداث تركت أثرا في تاريخ البشرية، وغيّرت معالم الإمبراطوريات، وزرعت منظومة حكم وأخلاق وتاريخ جديد للعالم.

والرسول العظيم محمد عليه السلام ليس خاصا بالمسلمين فقط، بل إن آثار وجوده في الدنيا والرسالة التي أكرمه الله تعالى بها غيّرت وجه العالم، وأولى الأمم التي تغيّرت مساراتها نحن العرب. فالإسلام لنا جميعا مسلمين ومسيحيين، لأن في الإسلام أبعادا ثقافية وقيمية، بما فيها حرية الاعتقاد، تجعل منه قيمة إنسانية حتى لمن لم يؤمنوا به كدين واعتقاد.

ومحمد عليه السلام الذي تحتفل الأمة اليوم بذكرى ميلاده، شخصية تغييرية ليس على صعيد الدين والعقيدة فقط، بل تغيير الواقع السياسي والاجتماعي للأمة. ولهذا لم يقدم للإنسانية دينا وشعائر فحسب، وإنما كانت الرسالة في جوهرها تفعيل الإنسان بكل قدراته ليعبر عن ذاته وفق منهج هدفه إقامة حياة نظيفة، وأسس لكل أنواع العلاقات ابتداء من علاقات الإنسان بالله تعالى إلى علاقة أحدنا مع البيئة والشجر والحيوان. وهذا النهج هو الذي تحاول الإنسانية أن تصل إلى تكامله من خلال مجموعات الأعراف الدولية والمحلية والعلوم المستحدثة ومؤسسات المجتمع المدني.

نحتاج نحن العرب والمسلمين أن نتعامل مع شخصية الرسول محمد عليه السلام بأبعادها الشاملة، وأن ندرس سيرته ليس باعتبارها سردا لأحداث وغزوات وحكايات، بل بمنظور كل العلوم والقضايا التي تشغل العالم، وسنجد أننا أمام شخصية الدهر؛ شخصية تصلح لتكون المثل الأعلى والنموذج في بناء المجتمعات والإنسان. وحتى عندما يشكو أي مجتمع من غياب القيم والأخلاق، فإنه يشكو من قضية سياسية اجتماعية قانونية، لأن أي فرد تضعف داخله منظومة القيم يصبح بحاجة إلى قوانين صارمة، وكثافة إدارية وأمنية حتى تردعه عن الخطأ. وما ينطبق على الفرد ينطبق على المجتمع إذا ما عانى من ذات المشكلة. ولهذا، فهي أصل مشكلات الفساد والترهل وغياب الانتماء وحتى النظافة والخديعة الزوجية والعمالة لأعداء الدولة والأمة. ومن هذا المنظور نفهم دلالات الوصف القرآني للرسول العظيم "وإنك لعلى خلق عظيم"، لأن الخلق هنا ليس بشكله البسيط بل تلك المنظومة التي تحقق كل ما يحتاجه الفرد في علاقاته من أدناها لأعلاها.

نظلم كثيرا من مناسباتنا الدينية والوطنية حين نختزلها في نشيد مضى على تسجيله عشرات السنين أو مادة تلفزيونية تلاشت ألوانها، لأن القراءة العميقة لأبعاد هذه المناسبات الكريمة جزء من حركتنا الإصلاحية.

الغد

أضف تعليقك