"سيداو" وتناقضات الفقهاء ورجال الدين!
هل أتاكم نبأ "سيداو"، وشغلكم أمره والفتنة فيه؟؟ فلتسمعوا، إذن، انها ليست بمهدد لأمن وسلامة الأسر ولا بمزعزع لاستقرارهم ووحدتهم، ولا أي من هذا أو ذاك.. الخطر يكمن في حيل الإسلامويين الجهادية وأيدولوجيتهم البراغماتية الاقصائية التي يزعجها مواكبة تطور المرأة ونيلها مكاسبها المستحقة بالقانون. اتفاقية "سيداو" إن هي الا حزمة من والقوانين والبنود تمهد (للقضاء على انواع التمييز ضد المرأة)، وتعمل على منع ظلم النساء عالمياً بحماية حقوقهن، وتعزيز جهودهن وإكرامهن. وبالتالي فإن أهداف "سيداو" قبل ان تكون اهتمامات المجتمع الدولي، هي من باب أولي من تنزلات السماء في العدل الإنساني، اقرأ قوله تعالي (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ)، ثم دونك حديث النبي صلي الله عليه وسلم (ما اكرمهن الا كريم وما أهانهن الا لئيم).
السؤال: لماذا أزعجت سيداو رجال الدين والفقهاء، و(اخوات نسيبة)، حتى خرجن في تظاهرات باللافتات الملونة والدعوات المتشنجة من شاكلة: "من أجل مناهضة اتفاقية سيداو المدمرة للأسرة المبدلة لشرع الله" و"من حقنا ان تكون القوانين معبرة عن قيمنا"؟؟ المؤسف ان اخوات نسيبة ومن تبعن قطيع الفقهاء هن صاحبات قضية نائمات عنها بجهل منهن، أو بمحض مسكنه أخضعتهن للإرهاب الديني، بفهم أن قول الفقهاء هو كلمة الدين الاخيرة في حقوق المرأة. السودانيات سئمن ذاك اللحن المكرور من "انهم حماة الدين"، وأن "الإنقاذ جاءت لإحياء الخلافة الإسلامية"، وأن "المشروع الحضاري يطبق الشريعة الإسلامية".
لعمري كان الاشرف لأخوات نسيبة الخروج في تظاهرات ضد الدولة الاسلاموية التي لديها في مهامها وظيفة تسمي (اختصاصي اغتصاب) كما أعلن في نتائج التحقيق في مقتل الشهيد المعلم احمد الخير، وضد علماء الاسلام الساكتين عن ذلك، اذ أن الواجب الديني المبدئي يحتم صيانة العرض ويحافظ على الاسرة المسلمة. مع ان حتى الحق في التظاهرات، في حد ذاتها، تسندها بنود سيداو المساوية في الحقوق بين الرجال والنساء، ولا تسندها نصوص الشريعة الإسلامية، اذ أنه لدي هؤلاء الفقهاء (صوت المرأة عورة) ولا يجوز اختلاطها مع الرجال!!
وبالطبع لا يوجد لدي الإسلامويون ورع يعصمهم عن دعاوي أنهم الأحرص علي الإسلام، حيث وقعت54 دولة إسلامية، بينهم 20 دوله عربيه، علي "سيداو" بتحفظات (منها المملكة العربية السعودية، مصر ؛ المغرب ؛ تونس ؛ الجزائر ؛ لبنان ؛ ليبيا ؛ الأردن ؛ الكويت ؛ اليمن ؛ العراق ؛ جزر القمر ؛ الإمارات العربية المتحدة ؛ موريتانيا ؛ البحرين ؛ جيبوتي ؛ سلطنة عمان ؛ سوريا ؛ قطر ؛ وفلسطين).
ومن المفارقة ان جميع تلك الدول تقول ان مرجعتيها الشريعة الاسلامية لكنها جاءت بتحفظات متباينة ومختلفة، وذلك لانعدام المنهجية الفكرية في فهم وتطبيق الشريعة الإسلامية نفسها. فاختلفوا في فهم حقوق المرأة، التي يكفلها لها الدين، بينما اتفقوا حول التحفظ علي البند السياسي الذي يخص الرجوع الي محكمة العدل الدولية في حالة النزاع بين الدول! وهذا لا علاقة له بمراد الدين بقدر ما ان جميع هذه الدول الإسلامية لديها سجلات انتهاكات لحقوق الانسان ولها سوابق في قتل النفس التي حرم الله الا بالحق. ففي اقليم دارفور وحده، تقول التقديرات، تمت إبادة 300 الف شخص، اعترف الرئيس المخلوع، في اجهزة الاعلام، فقط بعشرة آلاف منهم!!
وباستعراض بعض نماذج بنود سيداو التي تم التحفظ حولها، يبرز عجز رجال الدين في التسامي بالإسلام لفهم عصري يحل مشاكل المرأة التي ترتفع من قصورها كل حين، نحو تحقيق مزيد من الإنجازات، فلجأوا للكسل العقلي وظلوا مذبذبين بين النقل الحرفي للنصوص وبين الاتهام بدعاوي الخروج عن الدين. مثلاً اعترض الفقهاء علي المادة 5 التي ورد في بنودها:
1) تتخذ الدول الأطراف جميع التدابير المناسبة لتحقيق تغيير الأنماط الاجتماعية والثقافية لسلوك الرجل والمرأة، بهدف القضاء على التحيزات والعادات العرفية، وكل الممارسات القائمة على الاعتقاد بكون أي من الجنسين أعلى من الآخر، أو على أدوار نمطية للرجل أو المرأة.
2) تضمين التربية العائلية فهما سليما للأمومة بوصفها وظيفة اجتماعية، والاعتراف بكون أن تنشئة الأطفال وتربيتهم مسئولية مشتركة بين الأبوين على أن يكون مفهوما أن مصلحة الأطفال لها الأولوية في جميع الحالات.
وكعادة الفقهاء اختزلوا هذا البند الهام بقولهم انه يدعو الي "إلغاء قوامة الرجل في الأسرة" (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ). تجدر الإشارة إلى أن هذا الفهم يعني ان رجال الدين لم يستطيعوا مغادرة محطة ان "القوامة للرجل بالعضل والانفاق المادي"، فيصبح الرجل أفضل منها، والقيم عليها، ومؤدبها، ويحق له بالتالي ضربها وهجرها في مضجع الزوجية امعاناً في تأديبها وإذلالها، وانه خير منها في مسائل الحكم والسياسة (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة). والحق يقال ذلك ليس فقط مخالف لسماحة الدين، بل مخالف حتى لسماحة الاعراف التي تنادي بإكرام النساء ومخالف للواقع في ان كثير من النساء تقع على عاتقهن إعالة اسر، من بينهم فقهاء، بل سماحة المتوصفه لديهم ( الصلاح امرأة) .
الجزء الرابع من الاتفاقية، المادة (15)، اعترض عليها كل من الجزائر والأردن والبحرين وتونس وسلطنة عمان وسوريا وأضافت السعودية اعتراض ما يخالف الشريعة الاسلامية، علي مدعاة ان "الشيطان يكمن في التفاصيل" مع أن المعرفة الدينية تقول أنه "لا يدخل في ملكه الا ما يريد". بنودها تقرر:
1) تعترف الدول الأطراف للمرأة بالمساواة مع الرجل أمام القانون
2) تمنح الدول الأطراف المرأة، في الشئون المدنية، أهلية قانونية مماثلة لأهلية الرجل، وتساوى بينها وبينه في فرص ممارسة تلك الأهلية. وتكفل للمرأة، بوجه خاص، حقوقا مساوية لحقوق الرجل في إبرام العقود وإدارة الممتلكات،
3) تتفق الدول الأطراف على اعتبار جميع العقود وسائر أنواع الصكوك الخاصة التي يكون لها أثر قانوني يستهدف الحد من الأهلية القانونية للمرأة باطلة ولاغية.
4) تمنح الدول الأطراف الرجل والمرأة نفس الحقوق فيما يتعلق بحرية الحركة وحرية اختيار محل السكن والإقامة.)
وهنا يتجسد بجلاء التناقض والمفارقة ما بين واقع حال النساء وما عليه فهم الفقهاء من عدم التفريق بين الشريعة والواقع المعاش، اذ ان النساء اليوم متساويات مع الرجال بجميع حرفية الفقرات أعلاه، والحقيقة لا يوجد تعارض ما بين تلك البنود الوضعية وبين الاسلام اذ أن الأصل في الإسلام المساواة التامة بين الرجال والنساء، أمام الله (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا).
ولقد شهدنا في صحائف تناقضات دعاة رفع المصاحف في وجه سيداو كيف ان المستشارة بدرية سليمان هي من كتبت بنود قوانين الشريعة الاسلامية المسماة بقوانين سبتمبر 1983 وظلت مشرعة للدساتير الاسلامية في حكومة الاخوان المسلمين طوال عهد النظام البائد وذلك بعلم ورضا نفس الفقهاء الذين يعترضون اليوم على سيداو!
والمرأة القاضية تحكم في قضايا الرجال وترفض شهادتهم، في حين ان الشريعة الاسلامية تضعها علي النصف من الرجل وشهادتها تعادل عندها نصف شهادة حاجب محكمتها! في حين هنالك نصوص: (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة) وحديث (النساء شقائق الرجال).
وبالطبع وضع دولة قطر عصمهم من الاعتراض على هذه البنود تحديداً اذ ان دولة الشيوخ اليوم بقيادة الشيخة موزا بنت ناصر المسند. كذلك تزحزحت دولة الوهابية اليوم لتواكب واقع المرأة الذي فرضه التطور وخرجت السعوديات في السعي لنيل الحقوق ولا يستطيع كائنا من كان الوقوف في وجه التطور، وإلا فمصيره الانقراض!
كما ان من النماذج المدهشة، المادة (16) المتعلقة بالزواج والتعدد والاتجار بالنساء والبغاء!
الفقرة (2) تقرر أنه لا يكون لخطوبة الطفل أو زواجه أي أثر قانوني، وتتخذ جميع الإجراءات الضرورية، بما في ذلك التشريعي منها، لتحديد سن أدنى للزواج ويجعل تسجيل الزواج في سجل رسمي أمرا إلزاميا. وجاء اعتراض رجال الدين علي هذه الفقرة باعتبار ان بها رفع سن الزواج للفتيات (إلى 18 سنة، ويستهدف زيادتها إلى 21 سنة).
ومن المؤسف ان الفقهاء وأشياخ الدين لا يرون في زواج الطفلات استغلال يعادل الاتجار بهن، ولقد سمعنا عبر التلفاز سابقاً الشيخ دفع الله حسب الرسول المعترض علي الاتفاقية يقول (لقد زوجت بناتي جميعاً وان ابنتي ناديه عمرها خمسة سنوات لو جاني ليها راجل حأزواجها (كيتن) أي غيظاً للأمم المتحدة دي! .. ) وهل يكايد، هنا، الفقهاء الامم المتحدة ام الفطرة السليمة والعرف الصالح الذي ينادي بتعليم البنات ومواكبتهن العصر وتحدياته العظيمة!! الحقيقة ان اهوائهم القاصرة هي التي تسئ للدين بأكثر من مناصرته!
ومن ذلك غضبتهم على التمسك بالتعدد وبذلك هبطت باسم الاسلام الي درك إباحة "زواج المسيار" و"نكاح الجهاد"، "ومعاشرة الوداع " بحسب فتوي الدكتور صبري عبدالرؤوف، أستاذ الفقه المقارن بكلية الدراسات الإسلامية بجامعة الأزهر!
في حين أن الأصل في الإسلام أن يحقق كرامة المرأة فتكون الزوجة كلها لزوجها كله، وانه ليس من العدل ان يكون نصيبها ربع رجل! قال تعالي: (فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة)، ثم أكد الإجابة (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم).
هل للعدل السماوي الذي شرع التعدد في القرن السابع بحكمه تناسب طاقات ومشاكل ذاك العصر، تشريع يناسب قامة المرأة المعاصرة؟؟ والتي اصبحت مساوية للرجل في كافة الحقوق المدنية؟؟
الحقيقة ان المجتمع الصالح الذي يزود عنه رجال الدين لن يتم الا إذا كانت للرجال والنساء حق المواطنة المتساوية بلا تمييز بسبب الجنس أو النوع، كل يتحمل مسئوليته امام المجتمع وامام الله دون وصاية، على غرار (لا تزر وازرة وزر اخري) وان يتم القضاء علي الارهاب والعنف بالقانون. وليعلم الجميع ان الانحدار الاخلاقي والقيمي الذي شهدته البلاد في حقبة حكمهم السابق لم يكن بسبب سيداو وخلافها من الاتفاقات الدولية، وانما سببه التطرف والتسلط الديني وانعدام حرية الفكر واستخدام الاسلام السياسي من اجل الهيمنة على عقول الناس واستلابها لذلك كفر بصنيع هؤلاء الشيوخ حتي أبنائهم الذين من اصلابهم!!
هذا قيض من فيض لتناول رجال الدين لاتفاقية سيداو بحرابة وزخم في غير محله. اتفاقية سيداو القصد منها نصرة المرأة دوليا، بمساحة للدول للتوقيع عليها بتحفظات تلائم سياسات تلك الدول.
ولنطرح سؤالا للمتدبرين: هل الأحق بالسعي لفك التعارض البادي بين النصوص الدينية وما نالته النساء من حقوق بجدهن وكسبهن الامم المتحدة و "سيداو" ام الإسلام الصالح لكل زمان ومكان ومرجو ان نجد نحن النساء فيه ضالتنا دون ان نناقض مقتضيات عصرنا ونتأخر عن بقية النساء الذين يدينّ بغير الاسلام.
نحن، كنساء نؤيد التوقيع علي اتفاقية ( سيداو) ونرفض وصاية رجال الدين، اذ نحن مسئولين امام القانون وقبل ذلك امام الله وجديرين بان ننهض ببراهيننا في مواجهة حقوقنا دونما وسطاء .
ونطالب علماء الإسلام ان يكفوا عن ممارسة التضليل وعرقلة القانونين في الحكومة الانتقالية من اتخاذ القرارات العدلية السليمة، وليتذكر الجميع ان هؤلاء العلماء هم المتملقين الذين مكنوا حكومة الاخوان المسلمين فأذلت الناس وكانوا يستخفون بالقانون ولا يحترمونه.
وسيظل من اهم مطالبنا لحكومة رئيس الوزراء حمدوك محاربة المفسدين والذين أثروا ثراءً فاحشاً من رجال الدين وعلماء السلطان والفقهاء واسترداد ممتلكات الدولة واموال وزارة الحج وشئون الأوقاف والعمرة وديوان الزكاة، وماضاع حق وراءه مطالب.
*الحوار المتمدن