ساحرات الورق
لا أقصد بعنواني هذا البصّارات اللّواتي يتأمّلن ورق اللّعب، لقراءة حظوظ المارّة في حارات (هافانا) العتيقة، بل أقصد القارئات اللّواتي يقلّبن بأصابعهنّ أوراق الكتب، مستسلمات للطريق التي يشقّها تتابع الحروف على مساحات البياض، فقد اكتشفت مؤخّراً، وبعد مرور ثلاثين سنة، أنّ مشهدَ واحدةٍ من هاتيك القارئات، سحرني، وقادني إلى عالم القراءة والكتابة.
في بلدة كنت أقصدها مع عائلتي في سنوات الطفولة، وفي منزل جبليّ مستأجَر مطلّ على أودية غارقة في الخضرة، كانت شرفتي تطلّ على غرفة لصبيّة في حوالي الثامنة عشرة من عمرها، تشرع نوافذها فرنسيّة الطراز، والمحلاّة بستائر من الأورغنزا البيضاء، وتقرأ..
منذ بداية الرحلة إلى نهايتها، كانت الصبيّة لا تكفّ عن قراءة الكتب، وتبدو منسلخةً عن العالم بأكمله، وقد وهبت نفسها للقراءة مثل راهبة، ولأنّ المهيّئين للكتابة الروائيّة يعمدون مبكّرين إلى التلصّص البريء، ويغرمون بالتفاصيل، فقد قضيت الوقت في مراقبتها، مثل مريد وشيخ، أو مثل التابع والساحر. لا أعرفها ولا تعرفني، لكنّها سحرتني بانكبابها غير المألوف، الذي يجعلنا نطلق عليه بجدارة لقب "قارئة شغوفة".
تعلّقت عيناي بحركة يديها على الورق، يداها صغيرتان بشكل ملحوظ، بياضهما لافت، وأظافرها مستطيلة ذات طول مهذّب، شفّافة ورقيقة إلى درجة أنّ اللحم الأحمر تحتها يبدو طازجاً، ومشوباً بأوردة مزرقّة، ويبدو أنّني كنت قريبة جدّاً لألحظ هذه التفاصيل، أو أنّ خيالي سوّل لي اقتراف تلك الصورة! كانت الصبيّة ذات الشعر الأشقر المربوط على هيئة ذيل حصان متراخٍ، تتخذ وضعيّات غير مألوفة للقراءة، ولابدّ لها من ذلك، بسبب التعب الذي تفرضه العضلات، وسيرورة الدم في العروق في اتجاه واحد، لوقت طويل. كانت مثلاً تتكوّر على نفسها في كرسيّ كبير، والكتاب في حضنها، أو تستلقي على بطنها فوق الأريكة، في حين يكون الكتاب على الأرض تحتها، تسنده بيد، وتتابعه بعينيها. تفتح الستائر، وتغلقها، وتستعمل مصباح طاولة مساءً، بحيث تتوخّى ألاّ تكون الإضاءة ساطعة في أيّ وقت، كأنّها تتفق مع مارغريت دوراس في قولها: "لا يمكنك أن تقرأ في مكان يتعرّض إلى ضوءين دفعة واحدة، ضوء النهار، وضوء الكتاب".
لم تكن تلحظني، وقد رأيتها مرّة واحدة تخرج إلى الطريق حيث بقالة صغيرة، تبيع حاجيّات المصطافين، وكانت واثقة في مشيها مثل شراع مرفوع، خطواتها سلسة، ومنسجمة مع الأرض والسماء، ولاشكّ في أنّها تنطلق بطاقة كلّ الذين قرأت لهم وعنهم، وأنّها من الذين قصدهم والت ويتمان حينما أهدى ديوانه "أوراق العشب" إلى قرّائه قائلاً: "أيّها القارئ أنت تنبض بالحياة والكبرياء والحبّ مثلي تقريباً، لذا إليك هذه الأغنيات...".
بقي مشهد أصابعها الرفيعة وهي تقلّب الصفحات في ذاكرتي، وصارت لي علاقة خاصّة بالأيدي القارئة، فكلّما رأيت يداً تقلّب صفحات كتاب أقف وأتأمّلها بإعجاب، في المكتبة، وعلى شاطئ البحر، وفي المطار، وعند بائع الكتب.. وحتّى أستاذ الأدب العبّاسيّ الذي فقدَ أجزاءً من أصابع يمناه في الحرب، كانت تدهشني حركته المغايرة في مسك الورق، بل إنّ الصورة الأولى التي أرسمها للناس الذين ألتقيهم، فيتركون في نفسي أثراً محبّباً، هي شكلهم وهم يقرؤون، ويقلّبون الورق! هذا لا يعني أنّني لا أحبّ تأمّل قرّاء الصفحات الإلكترونيّة، وحركة أصابعهم على لوحة المفاتيح، لكنّني لا أكون على ثقة تامّة بما يقرؤون، فالمواد بين أيديهم ملتبسة.
يعتريني فضول دائم لمعرفة العناوين التي يقرؤها الغرباء، وهذا ليس من اللياقة على كلّ حال! فالتلصّص على كتب الآخرين، اقتحام للخصوصيّة، ممّا يضطرّني لكبح فضولي، لكنّني أشعر بالغبطة حينما يكون بين يدي الآخر كتاب ثقافيّ، أو معرفيّ، أو أدبيّ، وبالغيرة أحياناً حينما يكون الكتاب استثنائيّاً في عمقه!
لم ألتق بتلك القارئة الساحرة بعد ذلك الصيف، ولا أعرف ما حلّ بها، لكن أعتقد أنّها عاشت حياة سعيدة، فالقراءة، لاسيّما الأدبيّة، تمنح دائماً حلولاً، وحيوات مضافةً، وشجاعة في الاختيار، نظراً للتعرّف إلى ممرّات بديلة للواقع.
لقد امتلك قرّاء الأدب حظوتين على الأقلّ حسب وجهة نظر أوريليوس، أحد فلاسفتي المحبّبين، الذي قال في تأمّلاته: "أحمد الآلهة على أنّ جسدي قد صمد حتّى الآن في حياة مثل حياتي، وأنّني شفيت من سعار الشبق بعد أن وقعت فيه، وأنّ والدتي رغم وفاتها المبكّرة عاشت سنيّها الأخيرة معي، وأنني لم أضع وقتي في تحليل الأدب أو المنطق، أو أشغل نفسي ببحث الظواهر الكونيّة، فهذه الأشياء تحتاج إلى عون الآلهة ومحاباة الحظ"!
- د. شهلا العجيلي: روائيّة، وأكاديميّة، أستاذة الأدب العربيّ الحديث في الجامعة الأميركيّة في مادبا. لها في الرواية "عين الهرّ" الحائزة على جائزة الدولة التشجيعية 2009، و"سجّاد عجميّ".