زليخة .. التي نحاربها

زليخة .. التي نحاربها

 

أيُّ زليخة تلكَ التي نحاربها، ونحتشدُ للنيلِ من إنسانيتها وكرامتها وكبريائها، ونقذفها، بأسوأ ما فينا من تشوّهاتٍ بدائيةٍ، وانحيازاتٍ ذكوريّةٍ ودينية، بكلِّ ما نُخبّئهُ من خيباتٍ، وهزائمَ. تارةً، تتخفى في ثقافةٍ مجتمعيّةٍ، تُقدِّس "عورةَ الأنثى"، وتبحثُ عن أيِّ الوسائلِ الملائمة لوأدها، وتارةً، تتستّرُ بسلطة الكهنوتِ، وروايته الوحيدة والأخيرة.

هَلْ هذه الحربُ ضدَّ زليخة أبو ريشة، الشاعرة، والكاتبة، والناقدة، التي أفنت سنواتِ عمرها في الكتابة، والتربية، والدفاعِ عن المسرّات المدفونة تحتَ خرابٍ مُعتمٍ، شاءته لنا ثقافةٌ متوحِّشة. أم أنَّ احتمالنا للأنثى لا يزالُ محكوماً بأقلِّ قدرٍ من الصبر، حينما تصرخُ المرأةُ، مثلما حينَ تكتبُ، حينُ تعلنُ عن وجودها، وترفضُ سجوناً، وأدواراً، وهرموناتٍ، اختصرت جسدها في وظيفته الحيوية، وعقلها في ما جسّدتهُ الخرافةُ، وقيّدته برموزها، وبنصوصها، لئلا نرى، أبعدَ من مشيئةٍ، مُصابةٍ بعماء نهائيٍّ، لا يرى أيَّ "زليخةٍ"، ويحسبها عدوَّاً، لا مناصَ من تدجينه، وإخضاعه، قبل كلِّ شيئ.

زُليخةُ التي نحاربها الآن. ليست فقط زليخة أبو ريشة، وَقَدْ كتبت مقالاً، لأجلِ اليقظة؛ ضدَّ الخَدَر، الذي يُشبهُ الخديعة التي تشدُّنا لهذه الحرب. نحنُ نريدُ زليخةَ في بيت الطاعة. في العزلة، تحت ضلع الذكر. في صفوف محو الأميّة، بصوتٍ مخفوضٍ، بروحٍ مقموعة، تخجلُ من أنوثتها، التي تعدلُ الخطيئة، وتعادلها موضوعياً في قراءةِ الحياة، وكتابتها.

ليست زليخةُ هي التي تُشتمُ الآن، ويُبدعُ الذهنُ الذكوريُّ في تلخيصها بمجرّد حرفٍ ناقصٍ، برسمٍ إملائيٍّ في "تاء تأنيث". يتطاولُ ذلك على صفاتٍ وطبائع في المرأة، وربَّما حتى على وظائف بيولوجية في تكوينها. ثمة من شتمَ نوال السعداوي بالشيبْ في شَعْرها، وهناكَ من ذكّرها بنقصٍ عقليٍّ، بسبب دورتها الشهريّة، وحينَ مرضت أخيراً، وهي في الثمانين، وجدتْ "داعية" مصريّاً، يَقُولُ بأنَّ "الله يردّها لأرذلِ العمر، لأنها دعت للمساواة بين الرجل والمرأة".

الحربُ الشرسةُ على زليخة أبو ريشة الآن، لا تُخاضُ ضدَّها مجرَّدةً ومعزولةً. يخوضها رجال على زوجاتهم وبناتهم وشقيقاتهم، خوفاً من شيوعِ النموذج. يستأسدُ فيها مثقفون مفصومون، نشداناً لمصالحهم الشعبويّة، أو خوفاً من الاشتباك، والتنوير. يرى فيها الكهنوتُ تهديداً للدور، وللمعاقل التي تمترسَ فيها عقوداً، ورسمَ للمرأةِ حدودها، وطوَّعَ إنسانيتها، كما يَشَاءُ السيّدُ للعبد، وكما يَشَاءُ المالكون التاريخيون، لما ملكت أيمانهم.

المقصودةُ في كلّ هذا التشوّه الذهنيّ زليخةُ التي نخافها. نخافُ من المرأة الكامنة والمعلنة فيها، ونستبدُّ في تلقينها الوصايا، ونُلقي عليها قماشاً أسودَ، وهي تلهو بألعابها، ونعلّمها لعنةَ أنْ تكونَ أنثى. نلعنُ فيها الصوتَ والجسد، نلعنُ عدالة الحياة نفسها، ونفرضُ تعاليم وقوانين وأكاذيب للكآبة. زليخةُ التي في البيت، الحريصة على حراسة "شرف" أبيها وشقيقها، العورةُ، التي تخشى من لعنة الملائكة، فتزورها الكوابيسُ، إذا نامت، وزوجها غاضبٌ عليها. المحتلّةُ، كأرضٍ منهوبة، كجسدٍ خاطئ. تلكَ المقصودةُ، بكلِّ هذا الغسيلُ المتَّسخُ بالماضي، وهو ليسَ أكثر من "غسيلٍ للأدمغة".. رفضته زليخة أبو ريشة، من أجلنا جميعاً..

  • باسل رفايعة: صحافيّ أردنيّ، عمل في صحف يومية محلية، وعربية.
أضف تعليقك