التحرك عالي الوتيرة في المستويات العليا من صنع القرار خلال الأيام القليلة الماضية لإعادة ترتيب الداخل الأردني بدا واضحاً عبر المعلومات عن تعديلات دستورية ستنص على أن تصبح تعيينات مدراء الأجهزة الأمنية ورئيس هيئة الأركان وغيره من المناصب العسكرية العليا من صلاحيات جلالة الملك دون حاجة لتنسيب من رئيس الوزراء كما هو معمول به حالياً.
وجاءت الرسالة الملكية لرئيس الوزراء عبد الله نسور لتوجيهه لتفعيل وزارة الدفاع، وهي الوزارة التي اعتاد الأردنيون أن ترتبط بشخص رئيس الوزراء من دون أن يكون لها اي دور فعلي، وفي ذات الرسالة تم توجيه الرئيس لتوسيع دور الهيئة المستقلة للانتخاب في إدارة العمليات الانتخابية، لتشمل الانتخابات البلدية والإشراف عليها، لتشير إلى وجود نقلة نوعية سيشهدها الأردن في المرحلة المقبلة.
قراءات عدة يمكن تقديمها لهذا التطور، ولكن ما أراه أن هذه التطورات تعطي ملامح واضحة على السير قدماً باتجاه تغييرات عملية تطال كيفية تشكيل الحكومات، فبتعيين مدراء ورؤساء الأجهزة الأمنية والعسكرية مباشرة من قبل جلالة الملك دون حاجة لتنسيب من رئيس الوزراء، وبإيجاد وزارة للدفاع على أن ترتبط مباشرة مع المقر السامي، فإن الأجهزة الأمنية والمؤسسة العسكرية تصبح بعيدة عن تجاذبات السياسة والسياسيين، بارتباطها برأس الدولة، وهو ما يعني أنها لن تكون إلا في خدمة الوطن.
وبالتالي فأي رئيس وزراء مهما كان انتماؤه السياسي أو الأيدولوجي لا يستطيع أن يؤثر في المؤسسات الأمنية والعسكرية الوطنية والسيادية.
كما يؤشر ذلك إلى أن ميزانية وزارة الدفاع ستصبح في بنود عديدة قابلة لمناقشة البرلمان، مع الأخذ بعين الاعتبار أن بنوداً عدة من الموازنة الخاصة بوزارة الدفاع قد تعد بنوداً سرية، وهذا الإجراء متبع في مختلف الدول حتى تلك التي تُعد من الأكثر ديمقراطية كالولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا.
والارتباط الواضح بين تفعيل وزارة الدفاع ومد صلاحيات الهيئة المستقلة للانتخاب للإشراف على الانتخابات البلدية يُظهر ارتباط المسار الديمقراطي بتطوير المؤسسات في الدولة، فوجود مؤسسة واضحة اسمها وزارة الدفاع هو جزء من مسيرة إصلاحية تتطلب في ذات الوقت إفراز ممثلين عن الشعب بصورة ديمقراطية نزيهة وشفافة كي تزداد مساهمة المواطنين في عملية صنع القرار، وهو ما سيتم تطويره عبر تطبيق تدريجي للامركزية الإدارية.
ولكن ذلك ايضاً يُظهر أن الأردن يتفاعل مع ما يجري في محيطه بصورة حية، فالتهديدات التي تحيط بالأردن من مختلف حدوده تحتاج إلى تطوير في آليات وأداء المؤسسات المسؤولة عن الدفاع والأمن، كي يستمر الاستقرار الذي ينعم به الأردن في محيط محترق.
هذا الاستقرار الذي استطاع الأردن التمتع به بحكم وعي جلالة الملك وإدارة حذقة من قبله، جنبت الأردن الدخول كطرف في معارك وصراعات بين أطراف ستخرج كلها خاسرة، في الوقت الذي استطاع الأردن الاستمرار والمراكمة على العملية الديمقراطية وبناء المؤسسات وعملية استعادة هيبة الدولة، وهو ما سيظهر بوضوح كإنجازات ملحوظة حين تضع الحروب المحيطة بنا أوزارها، وتبدأ عملية بناء الدول من جديد، حينها سيكون الأردن قد قطع أشواطاً طويلة وبنى مدرسته الخاصة به التي يمكن أن تصبح نموذجاً يمكن الأخذ به في الدولة المجاورة التي تعيد بناء ذاتها.
جلالة الملك في كل خطوة يقوم بها يقطع مسافة تنقل الأردن نقلة نوعية، ولكن يبقى السؤال الحائر هل باقي مكونات الدولة من مؤسسات رسمية وغير رسمية، ومن نشطاء ومعارضين من أحزاب وجماعات قادرة على مواكبة ما يقوم به جلالة الملك عبد الله الثاني، أم أنها ما زالت تتحرك في المربع الأول ولا ترى أبعد من حدوده الضيقة.
على الجميع أن يتنشقوا هواء يملأ الرئات ويفتحوا العيون على وسعها كي يكونوا قادرين على مواكبة خطوات جلالة الملك الواسعة ويروا البعيد الذي لا يرونه من موقعهم اليوم.
الرأي