"رجل ناقص عقل ودين!"

"رجل ناقص عقل ودين!"
الرابط المختصر

يخرجُ صباحا من بيته مفتونا بكمال أوصافه. ينظرُ أثناء مشيه الأمتارَ القليلة قبل الوصول إلى سيارته، في كلِّ الجهات، كما لو أنه يحثُّ الناسَ على التقاط علاماته الفارقة. يتخيَّلُ، وهو يقود سيارته بخيلاء طيار حربي، كيفَ تنتقلُ سيرته على الألسن، وتعاظِمُ مواصفاته مثل شائعة قابلة للتصديق!

يدخلُ متجرَهُ عابسا، متلبِّسا قيافة حاكم عسكري على الأقل، يقرِّعُ العاملَ الوافدَ على خطأ يحتملُ الصوابَ، ويهدِّده بالعودة إلى بلاده بـ "خفي حنيْن". ولما يجهلُ العامل مقصد ربِّ العمل، يجدها فرصة لإبراز تفوقه "العلمي". ويوضح بحنق مفتعل:"أنْ تبيعَ ما وراءك وما أمامك لكي تعودَ إلى بلدك"!

لا يبردُ غيظه، يهمُّ بضرب العامل بإبريق الشاي الساخن، قبل أن تسبقه كف جاره الذي يحجبُ بكتلة لحمية شديدة الفظاظة مرمى الهدف عن "كامل الأوصاف"، وبكفه الأخرى (الشديدة الفظاظة بالضرورة) يمسِّدُ لحيته الرَّمادية بحركة خاطفة، راجيا إياه زيادة الصلاة على النبيِّ، وأنْ يُكبِّرَ عقله. ويُذكره:"إنتَ العاقل"!

صحيح؛ فأكبر صفة يغترُّ بها "كامل الأوصاف" أنه "راجح"، فهو يُشاركُ في كلِّ "العطوات" التي تستقبلها عائلته، أو تذهبُ فيها لتبريد تبعات "ساعة غضب" استثمرها الشيطان على نحو جيِّد. كما أنه يتصدَّرُ "جاهات" الذكور الصغار من عائلته، وإنْ يبدو خجلا حينَ يستقبلُ الجاهة الرابعة التي جاءت لطلب فتاة ثلاثينية "قليلة الحظ"!

لم يحدث أنْ فشلَ في مهمة سريعة توكلُ إليه؛ وصيته "الوفاقي" يجعله قادرا على احتواء أي مشاجرة في منتصف "العرس"، وهو الصيتُ ذاته الذي يسمحُ له بالدخول إلى منزل مجاور وفضِّ اشتباك بين أخوة؛ لا يتورَّعُ عندها أنْ يسدِّد صفعة "أبوية" لخدِّ الأخ الأصغر!

يجلسُ في صدر أيِّ بيت عزاء، ويُسهبُ في تعداد مناقب الميِّت (الذي جاءَ نعشه بالطائرة من دولة عربية بعيدة حيث عاش أكثر من ثلثي عمره). ولأنَّ مناقبَ الراحل لا تغطي ثلاثة أيام؛ فإنَّ "كامل الأوصاف" ينوِّعُ في الحديث الذي يجبُ أن يليقَ بمرشَّح محتمل لمجلس النواب، ومن الضروري ألا يقل عن تكرار ما استطاع حفظه من برنامج "منتصف النهار" على قناة الجزيرة!

وأوصافه في البيت لا تقلُّ اكتمالا؛ فحينَ يعود، وينزلُ من سيارته، وينظرُ في كلِّ الجهات، أثناء مشيه الأمتارَ القليلة قبل الوصول إلى المنزل، كما لو أنه يحثُّ الناسَ على ترقب صوته يهدرُ، ويؤكد أن "حسَّه" ما يزالُ في الدنيا، والقانون يخرجُ من فراغ عقاله أو العقدة الرفيعة لربطة العنق!

يُلقي السلام على زوجتيْه وأبنائه بصوت منخفض، مكابر كأنما يشهدُ زورا، ثمَّ ينتفضُ حين يلمحُ "الصغرى" منسجمة بمشاهدة "فيديو كليب" المغنية الطفولية التي تنهرُ بلطف بالغ "حمادة" عن الرسم على الحائط. وشيئا بشيء يسألُ الزوجة التي كانت جديدة، إنْ كانت ابنتها الخامسة ارتدت الحجاب مع ترفيعها إلى الصف الخامس!

يبدي لوما أشدَّ على الزوجة التي ماتزالُ قديمة؛ فكيف تتركُ الهاتف المحمول قابلا للاستقبال في يد البنت الكبرى. يثور ويودُّ لو يشجُّ قلبها بـ "يمين الطلاق" لكنه يلتمسُ لها العذر؛ فهي "ناقصة عقل ودين"!

يدخلُ حجرة "الشباب" مباغتا. يضغط بقوة على زند الابن الكبير؛ تستفزه رخاوته، ويسأله إنْ كانت أصابعه المرتعشة تستطيعُ يوما الضغط على الزناد لغسل الشرف إنْ تلوَّثَ!

الابن الأصغر يسلم أذنه طواعية لكف أبيه يعنفه لأن الصلاة فاتته في الأمس، وليس مصادفة أن يكون يوم الجمعة (وهي الصلاة اليتيمة التي يؤديها ويظنُّ أنها وحدها تكفلُ له دخولَ الجنة)!

قبل أن ينام يحدِّقُ في السقف مليّا؛ يقلبُ كلَّ تفاصيل يومه، يزداد اعتدادا بكمال أوصافه، وعقله الذي يزدادُ رجاحة إثر كلِّ عرس وفي أول بيت عزاء، ودينه الذي اكتملَ مرَّتين.. ولا ضير بالثالثة!