خيالات السلاطين

خيالات السلاطين
الرابط المختصر

 

لا أحبّ التواريخ الحديّة، بل أخاف منها، لا سيّما أنّناّ نودّع عاماً آخر محاطين بكثير من الدمار والموت، باحثين عن أمان مفقود ومحبّة غامرة.

 

لقد راجعت مقالاتي التي رافقتكم بها طيلة العام الفائت، فوجدت أنّها جميعاً لم تنجُ من رائحة الحرب! لا أريد أن أبدو دراميّة مثل الواعظين أو بعض مقدّمي البرامج التلفزيونيّة، لكن حينما أجلس لأكتب في مثل هذه الأيام من كلّ عام يستعد للمضيّ، أقول لنفسي: الحمد للّه، لقد نجونا، فما يزال الخيال في قبضتنا حتّى الآن على الأقلّ!

 

ذلك الخيال الذي بدأ محاكاة أو تقليداً عند أرسطو، صار نظريّة ثمّ جابه الواقع وفتح طرقاً للهروب منه، لكنها أيّاً كانت ستظلّ مشتبكة مع ذلك الواقع الآخذ بالتعقيد، وقد كان الشاعر العربيّ حازم القرطاجنيّ (ت 684 هـ) من المفكرين العرب الذين انشغلوا بالتخييل، الذي هو صناعة خيال الآخرين عبر الصورة الشعريّة تحديداً. لن أشغلكم بالنظريّات، لكن أريد أن ألفت إلى أنّ مهمّتنا بوصفنا كتّاباً قاصين أو روائيين أو شعراء ليست سهلة، فنحن لسنا وسطاء فحسب لنثير لديكم الأخيلة، بل نحن نقوم بصناعتها أيضاً،  بحيث أنّكم قد لا تضيفون إليها كثيراً، إنّنا نفعل أكثر من أن نثير ذاكرتكم، أفراحكم وأحزانكم، وأكثر من أن ننشر حولكم روائح تحبونها أو تهربون منها، نحن نصرّ على أننا نتفوّق في منحكم  الحريّة التي تسلبكم إيّاها الصورة المفروضة الفوتوغرافية أو التلفزيونيّة الإعلاميّة، والتي تحد من قدرتكم على التخيّل. لكن هل فكّرتم بنا؟! هل تساءلتم عن الكيفيّة التي نصنع بها خيالنا، أي عن التخيّل الذي يرتبط بسيكولوجيا الإبداع، وليس عن التخييل الذي يرتبط بسيكولوجيا التلقّي؟

 

تتطوّر عمليّة التخيّل إلى تخييل كما تفعل كرة الثلج، تبدأ معي مثلاً وتنتقل إلى كلّ متلق على حدة، وفاقاً لخبراته وتجربته الذاتيّة، وتُحدث أثراً كأثر الفراشة، وقد تبدأ بأبشع المشاعر، بالخوف مثلاً، أو بأجملها بالحبّ، لكنّها تبقى دائماً فكرة متخيّلة غير حقيقيّة، فالأشياء التي نخاف منها بشكلها المؤثّر هي وهم يحمل بذور حقيقة، وكذلك الأشخاص الذين نكتشف سريعاً أنّنا وقعنا في شرك خيالنا عنهم، ولعلّنا نتذكّر هنا عازف الكمنجة الذي ألهمته سيّدة بين الحضور، فكان يتأمّلها طيلة الحفل ويعزف لها ألحانه وهو يبني خيالات من عينيها اللتين حملتاه إلى ما هو متصوَّر. مع نهاية الحفل تقدّمت نحوه واثقة من أنّها قريبة جداً، لكنّه أنكرها، إذ ليست هي التي ألهمته بل خياله عنها. هكذا نحن أيضاً نصطدم بشخصيّاتنا حينما نراها تمشي خارج رواياتنا، لتكون أشخاصاً لا نعرف عنهم الكثير، وليصدق عليها وصف ( أبطال من ورق).

 

نتساءل كثيراً عن الخيالات التي تصير حقيقة! إنّها ليست الخيالات بل الرغبات أوالأماني التي تحتاج وجه حقّ وبراهين، كما تقول الكتب المقدّسة، فالتمنّى على الله تعالى لا يحق للنفوس الكاذبة التي تدعي الأباطيل، أمّا الرغبات الخيّرة المشفوعة بقوّة الجذب، فتتحقّق،  لقد حدث ذلك معي مراراً، بل حدث منذ أيّام، وكانت هديّة جميلة لنهاية العام، لكنّها لن تصير بمستوى الخيال أبداً، لذا نعيش عزلتنا التي ماهي بفصام ولا وله بالبرج العاجيّ، بل ردّ فعل نفسيّ يحمينا ممّا تصنعه المفارقة بين حقيقة الشيء وبين صورته التي صنعها الخيال، أي بين المؤلم في حالة الحب والمريح في حالة الخوف.

 

فكرة خياليّة واحدة قد تدمّر العالم، وأخرى تسعده، فقد حمل الخيال ليوناردو دافنشي على تصميم غوّاصة وبدلة للغوص، لكنّه رفض الكشف عن تصميماته مصرّحاً بخشيته من طبيعة الإنسان الشريرة التي قد تتخذها وسيلة للقتل في أعماق البحر.

 

ثمّة خيالات أودت أو كادت تودي بأصحابها، وأقترح رواية تقول بتخيّل النابغة للمتجرّدة زوجة الملك النعمان بن المنذر، لا مشاهدتها على سبيل الحقيقة حين يسقط رداؤها عن جسدها:

سقط النصيفُ ولم ترد إسقاطه/ فتناولته واتقتنا باليدِ...

 

الخيال منطقة مشتركة بين السلاطين والفقراء، تلتبس فيها الأمنيات بالأحلام، وكان هذا ما لفتني في سؤال من أحد طلبتي إذ أشار إلى أنّنا نتخيّل، أي نحلم بامتلاك أشياء ليست بمتناولنا، فبماذا يحلم الذين في متناولهم كل شيء؟ لعلّه سؤال من أسئلة الشعراء والأطفال حول خيالات السلاطين، إذ روي عن زياد بن أبي سفيان أنّه قال لجلسائه: من أنعم الناس عيشة؟ قالوا: أمير المؤمنين معاوية. فقال: وأين ما يلقى من قريش؟ قيل: فأنت. قال: أين ما ألقى من الخوارج والثغور؟ قيل: فمن أيّها الأمير، قال: رجل له زوجة، لهما كفاف من العيش، قد رضيت به ورضي بها، لا يعرفنا ولا نعرفه!

 

 

د. شهلا العجيلي: روائيّة، وأكاديميّة، أستاذة الأدب العربيّ الحديث في الجامعة الأميركيّة في مادبا. لها في الرواية “عين الهرّ” الحائزة على جائزة الدولة التشجيعية 2009، و”سجّاد عجميّ”، و”سماءٌ قريبة من بيتنا”.