خلوة شرعية مع سيجارة!
أُبالغُ في الالتفاتِ حولي؛ والمارَّةُ الذين يصادفونني في أماكن عامة مفتوحة أو مغلقة، يرتابون في أمري، وكلُّ واحد منهم يتكهنُ بمصيبة ورائي تدفعني لأبدو كالمريب الذي يكادُ يقولُ خذوني!
فهذا رجل بصيتٍ سياسي غابر يُهرولُ من أمامي معتقدا أنني على وشك إخراج منشور لجماعة محظورة، وسيِّدة تقف فجأة أمام بناتها لمّا تقرأ في عينيَّ القلقتين نيةً شائنة، وصاحبُ محل يقفلُ بالمفتاح، وبثلاث "طقات"، درج "الكاونتر"، والأطرف أنَّ سائحا عربيا يكاد يطير من أمامي، ظنا منه أنني أبيِّتُ حيلة لإقناعه بشراء الشيء المخفي في جيبي على أنه تحفة أثرية!
..
ولا يخطرُ ببال أحد أنني أتحيَّنُ الدخولَ إلى زاوية آمنة، فأدخل كفي الصغيرة بحذر شديد إلى جيبي، وأخرج علبة ناقصة البياض، لأختلي بقليل من الوقار، وبما لا يتجاوز الشرعَ والقانون،.. بسيجارة!
فأنا واحد من قليلين، أخذوا بكثير من الجد تأكيدَ وزير الصحة على حظر التدخين في الأماكن العامة، وبالغوا في الهلع؛ وأنشأوا حلقات النقاش المفرغة لتوقع العقاب الذي تتوعدُ به العبارة التحذيرية "الحكومية" الدارجة: "تحت طائلة المسؤولية"!
زاد ذلك من حذري، وربما من هذياني؛ فصرتُ أشكُّ في أيِّ مُدخِّنٍ، عله يكون واحدا من 140 ضابط ارتباط جنَّدتهم وزارة الصحة لإنفاذ قانون مكافحة التدخين..؛ فشطح هذياني أكثر: لماذا لا يكون ذلك المدخن "ضابط ارتباط" يشجعني على إشعال السيجارة لـ "يعتقلني" بالجرم المشهود، وأصبح سجينا بعدما احترفتُ كل هذا الزمن الخروج من أعتى "المحكات" كالشعرة من العجين المختمر!
لكنني اليوم قلق جدا، وأتمنى لو يتبدَّد خوفي؛ فلو أنني أرى الضابط فعليا لذهبت إليه واعترفتُ بالحقيقة كلها؛ فأنا لم أكن مدخنا.. كنتُ صغيرا مأخوذا بالهيئة النكدة التي يمثلها "عادل إمام" في نهاية أفلامه، عند العقدة تحديدا، حينما تنبتُ ذقنه على نحو كئيب فتقتربُ الكاميرا المتحركة منه، تتابعُ ببطء كيف يتناول السيجارة من العلبة البيضاء ويشعلُ عود ثقاب من علبة الكبريت وهي تصدر الخشخشة الصوتية السينمائية الذائعة. أنبهرُ أكثر حين يطفئ العودَ بدخان رمادي ينفثه بحركة دائرية شديدة الافتعال من شفتيه!
لنْ يصدقني الضابط، سألحظ ذلك حتما. شخصيا لستُ مقتنعا بروايتي، وعليَّ لكي أخفَّفَ الحكم، وأجعله مقتصرا على الغرامة المالية، أن أقول الحقيقة.. لا غيرها؛ وهي أنني كنت طالبا مغرورا في الجامعة، لا أجالسُ الفتاة أكثر من مرَّتين. وحدث في مرَّة أولى أنْ تجاسرتْ إحداهنَّ وأشعلت سيجارة لها، واستدركت سريعا ومدَّت واحدة لي. افتعلتُ الوقارَ، ولم أكن مقنعا لها، وأنا آخذُ السيجارة من أصابعها الطويلة، النحيلة، فسعلتُ السعلة الأولى..، المعهودة!
عدْتُ إلى البيت مكسورا، سيِّدي الضابط، لكنني بدوتُ أكثر إصرارا على اكتساب آخر ما ينقصني من قيافة الوقار؛ فرحتُ أتمرَّنُ على التدخين بشتى الحركات، ولحسن الحظ فقط كانت إحدى القنوات الفضائية المفتونة بالماضي تبثُّ مسلسل "رأفت الهجان"، فقدَّم لي محمود عبد العزيز دروسا عملية، وكانت الفائدة عالية في المشاهد التي تجمعه بـ "إيمان الطوخي"!
ينبغي علي، سيِّدي الضابط، الاعترافَ أكثر؛ فلقد كنتُ قليلَ الإحساس بالآخرين، أتعمَّدُ التدخينَ في الحافلة المغلقة، والقاعات المفروغة من الهواء، ولا أكترثُ للآخرين وهم يدخنون رغما عنهم، ويكتسبون صفة قليلة الشأن حين يسميهم الطب "المدخنون السلبيون".
أظنه سيصدقني، وسيعفو عني، فهو غالبا سيكون مدخنا. وسأعود إلى البيت مطمئنا، ولن أضطرَّ إلى خلوة شرعية مع السيجارة؛ لكن خاطرا شيطانيا أقلقني، إذ يحق لوزير الصحة أنْ يحدِّدَ المكان الذي يشاء ويجعله "خاليا من التدخين". تساءلتُ بمنتهى الجدية ربما يكون ألحق منزلي بقائمة الأماكن، المفتوحة والمغلقة؟. وبجدية أكثر رحتُ أفترض أنَّ زوجتي ضابط ارتباط متخف!