حُكمُ الاختلاط أم جدواه؟
لأسبابٍ كثيرة، يصطدمُ أيُّ نقاشٍ حول أهميّةِ الاختلاطِ في مراحل التعليمِ المدرسيّ في الأردن، بجدرانٍ عاليةٍ جداً، يصعبُ القفز عنها. فالعقلُ الاجتماعيُّ بنى تصوّرَهُ حول الاختلاط عموماً على مفهوم دينيّ، تأسَّسَ على التحريم التام، قبلَ أن يتخفّفَ قليلاً، فيُصبح مقبولاً في الجامعات والعمل، مع تحفّظاتٍ وحذرٍ، يُمكنُ رصدُ مظاهرهِ في المؤسسات العامة والخاصة، وفي مقاعد جلوس الطلّاب والطالبات في الجامعات. أما الدولةُ، فهي تبثُّ على أثير "ما يُريده المواطنون" انتقائياً، ما دامَت هناك فئات اجتماعية محدّدة ومحدودة تستمعُ إلى تردّدٍ آخر، بلغةٍ أخرى.
دائماً، يُجادلُ التربويون الحكوميون، بأنّ المجتمعَ الأردنيّ ليس جاهزاً لتقبُّل إلزاميّة الاختلاط في المدارس الحكومية والخاصة، وهي ذاتها الجاهزيةُ الغائبةُ، عند الحديث عن الديمقراطية، والقوانين العصريّة، وانتخاب رئيس الوزراء، وحتى على ما يُسمّى بـ"القضاء العشائريّ". أي أنّ الدولة تنتظرُ معجزات تهزمُ علم الاجتماع، ليكونَ الناسُ جاهزين، بفعلٍ سحريٍّ، وليس ببناء منظومةٍ شاملةٍ وعميقةٍ للتنميةِ البشرية.
مدارُس حكوميّةُ تسمحُ بالاختلاطِ في الصفوف الأولى، وتمنعهُ في المراحل المتبقية، التي تُشكِّلُ شخصية الجنسين. ثمة مدارسُ مختلطةٌ حتى الصفّ الثالث. وأخرى غير مختلطة إطلاقا، وتكيّفت وزارةُ التربية والتعليم والبيئاتُ الاجتماعيةُ مع هذا النسق. أمّا المدارسُ الخاصة، فقد تجاوبَ بعضها مع هذا التوجّه، وحظرَ الاختلاط، ورأى فيه زاويةً تسويقيّةً مُجدية، خصوصاً مع وجود مدارس دينية (إسلامية ومسيحية) غير مختلطة تاريخياً.
إلى أيِّ ذهنٍ تُصغي الدولة؟ الذهنُ السلفيُّ يُحرِّمُ الاختلاطَ قطعيّاً في التعليم وغيره، وغير مستعدٍ حتى لوضع ضوابط له. الذهنُ المعتدلُ لا يُحرّم تعليمَ الطلاب والطالبات سويّاً، إنما يضعُ شروطاً وقوانين، ربَّما تتناسبُ مع أيُّ لائحةٍ تربويةٍ في أيّ مدرسة أجنبية في عمّان، لا تفصلُ الجنسين، ولا تحرمهما من التواصل الإنسانيّ الطبيعي، وتحافظُ، في الوقت نفسه، على القيم والأخلاق، والبيئة التعليمية السليمة.
من الضروريّ أنْ يعرفَ الأولادُ والبناتُ بعضهم بعضاً، ولَنْ يؤدي اختلاطهم في المراهقة إلى كوارث ومفاسد. على العكس، فإنّ الفصلَ بينهما يُنتجُ غموضاً وعزلةً وارتباكاً في شخصية كلّ جنس تجاهَ الآخر، فالمنعُ مع الاضطراب الهرمونيّ في هذا السنّ يجعلُ عالَمَ كلّ منهما مجهولاً عن الآخر، وتُكلِّفُ معرفته المحظورةُ خساراتٍ كثيرة، أثناء مرحلة البلوغ وبعدها، عوضاً عن تفاهمٍ طبيعي، وشخصيّات أكثر استقراراً، يُمكننا ملاحظتها في طلبة مدارس خاصة مختلطة، ولاحقاً في جامعيين وجامعيّات.
مدارسُ "للبنين" وأخرى "للبنات". ما مقدارُ الكلفة الماليّة لهذا الفصل في التعليم، من حيث الإنفاق على الأبنية المدرسية، وتوظيف معلّماتٍ ومعلمين، وتوفير اللوازم، والتدفئة، والمرافق الأخرى، خصوصاً مع ضرورة الاهتمام بحوسبة التعليم. والأهم هَلْ ثمةَ مَنْ يبحثُ عن علاقة بين عزل التلاميذ والتلميذات في المدارس، وبينَ نِسَبِ التحرُّش، والطلاقِ، والعنفِ المجتمعيّ، والانتحار، وسائر الكآبات التي تُضافُ إلى الأوضاعِ المعيشيةِ المتردية، وتتداخلُ معها في صراعٍ قديم.
أقترحُ أنَّ الاختلاطَ في المراحل التعليمية من رياض الأطفال إلى الجامعة، سينتجُ جيلاً أقلّ غضباً وكبتاً، وأكثر تسامحاً وانفتاحاً، واقترحُ أنْ تخوضَ الدولةُ هذا التحدي، ولا تسألُ عن حُكمِ الاختلاط، بل عن جدواه..!
باسل رفايعة: صحافيّ أردنيّ، عمل في صحف يومية محلية، وعربية.